كلمة قداسة البابا فرنسيس
إلى الدبلوماسيّين المُعتَمدين لدى الكرسي الرسولي
في مناسبة اللقاء السنوي لتبادل التهاني بالعام الجديد
10 كانون الثاني / يناير 2022
في قاعة البركات
________________________________
بالأمس انتهى زمن عيد الميلاد بحسب الليتورجيا، وهو زمن مميز لتقوية العلاقات في حياة العائلات، وقد تكون أحيانًا مشتتة أو متباعدة، أو منشغلة - كما هو الحال غالبًا خلال العام - في العديد من الالتزامات الأخرى. اليوم، نريد أن نستمر في روح التواصل هذا، فنجد أنفسنا معًا عائلةً كبيرة، تلتقي وتتحاور. بعد كلّ شيء، هذا هو هدف الدبلوماسية: المساعدة على إزالة الخلافات بين البشر الذين يعيشون معًا، وتعزيز الوئام. ونريد أن نختبر كيف نستعيد معنى الوَحدة العميق في واقع البشرية، بعد أن نتغلب على الرمال المتحركة في المخاصمات [1].
لذلك فإنّني ممتن لكم بشكل خاص لأنّكم أردتم المشاركة اليوم في ”اجتماعنا العائلي“ السنوي. هذه مناسبة مواتية لنتبادل التمنيات للسنة الجديدة وللنظر معًا في أضواء وظلال هذه الأيام. أتوجه بالشكر الخاص إلى العميد، سعادة السيد جورج بوليديس، سفير قبرص، للكلمات اللطيفة التي وجهها إليَّ نيابة عن السلك الدبلوماسي بأكمله. ومن خلالكم، أودّ أن أبلغ تحياتي ومحبتي أيضًا إلى الشعوب التي تمثلونها.
حضوركم اليوم هو دائمًا علامة ملموسة على الاهتمام الذي توليه بلادكم للكرسي الرسولي ودوره في المجتمع الدولي. وقد جاء كثير منكم من عواصم أخرى للمشاركة في حدث اليوم، وانضموا إلى المجموعة الكبيرة من السفراء المقيمين في روما، والذين سينضم إليهم قريبًا ممثل الاتحاد السويسري.
السفراء الأعزاء،
إنا نرى في هذه الأيام كيف أن مكافحة الجائحة ما زالت تقتضي جهدًا كبيرًا من الجميع، وما زلنا نتوقع أن يكون العام الجديد مليئًا بالتحديات. ما زال فيروس الكورونا يخلق العزلة الاجتماعية ويحصد الضحايا، ومن بين الذين فقدوا حياتهم، أودّ أن أذكر هنا رئيس الأساقفة الراحل ألدو جوردانو، السفير البابوي المعروف والمحترم في الأسرة الدبلوماسية. في الوقت نفسه، أمكننا أن نرى أنّه حيثما تم تنظيم حملة تطعيم فعالة، انخفض خطر تقدّم المرض.
لذلك من المهم أن تستمر الجهود المبذولة لتطعيم السكان بأكبر قدر ممكن. وهذا يتطلب التزامًا متعددًا على المستوى الشخصي والسياسي وكلّ المجتمع الدولي. أولًا وقبل كلّ شيء على المستوى الشخصي. كلّ واحد مسؤول، وعليه أن يعتني بنفسه وصحته، وهذا يعني أن نحترم صحة كلّ من كان قريبًا منا. الرعاية الصحية واجب أخلاقي. للأسف، إنّنا نرى أكثر فأكثر أنّنا نعيش في عالم من التناقضات الأيديولوجية الشديدة. في كثير من الأحيان نسمح لأنفسنا بأن نتأثر بأيديولوجية اللحظة، والتي غالبًا ما تكون مبنية على معلومات لا أساس لها، أو هي أقوال ليس لها توثيق كاف. كلّ بيان أيديولوجي يقطع روابط العقل البشري بالواقع الموضوعي للأشياء. من ناحية أخرى، تتطلب الجائحة أن يكون لدينا نوع من ”علاج للواقع“، الأمر الذي يتطلب منا أن ننظر في المشكلة كما هي، ونتخذ العلاج المناسب لحلها. اللقاحات ليست أدوات سحرية للشفاء، لكنّها تمثل بالتأكيد، بالإضافة إلى العلاجات التي يجب تطويرها، الحل الأكثر منطقية للوقاية من الأمراض.
ثم يجب أن يكون هناك التزام من قبل السياسة لمتابعة السعي لتحقيق خير السكان باتخاذ القرارات للوقاية والتحصين، وهذا يقتضي توعية المواطنين حتى يشعروا بأنفسهم مشاركين ومسؤولين، فيتم عرض المشكلات بصورة شفافة، وكذلك الإجراءات المناسبة لمعالجتها. النقص في الحَزم في اتخاذ القرار والنقص في الوضوح في عرض الأمور يولد الارتباك وعدم الثقة ويقوِّض التماسك الاجتماعي، ويغذي توترات جديدة. وتظهر ”نسبية اجتماعية“ تضر بالانسجام والوَحدة.
أخيرًا، هناك حاجة إلى التزام شامل من قبل المجتمع الدولي، حتى يتمكن كلّ سكان العالم من الحصول بصورة متساوية على الرعاية الطبية الأساسية وعلى اللقاحات. للأسف، يجب أن نلاحظ بألم أنّ الوصول الشامل إلى الرعاية الصحية في مناطق واسعة من العالم لا يزال سرابًا. في مثل هذه اللحظة الخطيرة للبشرية جمعاء، أكرّر مناشدتي للحكومات والهيئات الخاصة المعنية لكي تبدي إحساسًا بالمسؤولية، فتطوِّر استجابة منسقة على جميع المستويات (المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية)، من خلال نماذج وأدوات جديدة للتضامن ولتعزيز قدرات البلدان ولا سيّما أكثرها حاجة. أسمح لنفسي أن أحث، خاصة، الدول التي تعمل على إنشاء أداة دولية بشأن الاستعداد ومواجهة الجائحة برعاية منظمة الصحة العالمية، لكي تعتمد سياسة مشتركة غير متحيزة، كمبدأ أساسي لضمان وصول الجميع إلى وسائل التشخيص، واللقاحات والأدوية. وبالمثل، من المستحسن أن تقوم المؤسسات، مثل منظمة التجارة العالمية والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، بتكييف أدواتها القانونية، حتى لا تشكل القواعد الاحتكارية عقبات أخرى أمام الإنتاج، وحتى تسمح بالوصول المنظم والمتسق إلى الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم.
السفراء الأعزاء،
في العام الماضي، وبفضل تخفيف القيود التي تم وضعها في عام 2020، أتيحت لي الفرصة أن أستقبل العديد من رؤساء الدول والحكومات، ومختلف السلطات المدنية والدينية.
من بين اللقاءات العديدة، أودّ أن أذكر هنا لقاء اليوم الأوّل من تموز/يوليو الماضي، الذي خُصِّص للتأمل والصّلاة من أجل لبنان. إلى الشعب اللبناني العزيز، الواقع في أزمة اقتصادية وسياسية، وهو يسعى جاهدًا لوجود حلّ لها، أريد اليوم أن أجدّد تأكيد قربي منه وصلاتي من أجله، وأتمنى أن تساعد الإصلاحات اللازمة ودعم المجتمع الدولي لكي يبقى هذا البلد ثابتًا في هويته وبقائه نموذجًا للعيش السلمي معًا والأخوّة بين مختلف الأديان فيه.
خلال عام 2021، تمكنت أيضًا من استئناف الرحلات الرسولية. في آذار/مارس، كان من دواعي سروري الذهاب إلى العراق. وأرادت العناية الإلهية أن تكون رحلتي علامة أمل بعد سنوات من الحرب والإرهاب. إنّه من حق الشعب العراقي أن يستعيد كرامته وأن يعيش بسلام. إنّه شعب تعود جذوره الدينية والثقافية إلى آلاف السنين: فبلاد ما بين النهرين هي مهد الحضارة. ومن هناك دعا الله إبراهيم ليبدأ تاريخ الخلاص.
ثم في أيلول/سبتمبر ذهبت إلى بودابست من أجل اختتام المؤتمر الإفخارستي الدولي، ومن هناك إلى سلوفاكيا. كانت تلك فرصة للقاء المؤمنين الكاثوليك والجماعات المسيحية الأخرى، وللحوار أيضًا مع الجماعة اليهودية. وبالمثل، سمحت لي الرحلة إلى قبرص واليونان، والتي لا تزال ذكراها حية في نفسي، بتعميق الروابط مع الإخوة الأرثوذكس وعيش خبرة الأخوّة بين مختلف الجماعات المسيحية.
حدث جزء مؤثر من هذه الرحلة في جزيرة ليسبوس، حيث تمكنت من رؤية سخاء أولئك الذين يعملون لتوفير الضيافة والمساعدة للمهاجرين، لكن قبل كلّ شيء رأيت وجوه العديد من الأطفال والكبار الذين كانوا ضيوفًا في مراكز الاستقبال. في عيونهم تعب من السفر، وخوف من مستقبل مجهول، وألم الأحباء الذين تركوهم وراءهم، والحنين إلى الوطن الذي أجبروا على الرحيل منه. أمام هذه الوجوه لا يمكننا أن نظل غير مبالين ولا يمكن أن نتحصن خلف الجدران والأسلاك الشائكة بحجة الدفاع عن الأمن أو أسلوب حياة محدَّد. لا يمكننا أن نفعل هذا.
لذلك، أشكر الجميع، الأفراد والحكومات، الذين يعملون على تقديم الترحيب والحماية للمهاجرين، ويهتمون أيضًا بتقدمهم الإنساني وباندماجهم في البلدان التي رحبت بهم. إنّي أدرك الصعوبات التي تواجهها بعض البلدان في مواجهة التدفقات الكبيرة من اللاجئين. لا يمكن أن يُطلب من أحد، ما لا يقدر أن يعمله، لكن هناك فرق بين الترحيب، ولو بعدد محدود، وبين الرفض الكليّ.
يجب التغلب على اللامبالاة ورفض الفكرة أنّ المهاجرين هم مشكلة لغيرنا. يمكن رؤية نتيجة هذا الموقف في تجريد المهاجرين من إنسانيتهم، حين يُجَمَّعون في بعض ”النقاط الساخنة“، وحيث ينتهي بهم الأمر إلى أن يكونوا فريسة سهلة للجريمة وللمتاجرين بالبشر، أو يحاولون الهرب يائسين، وتنتهي محاولتهم أحيانًا بالموت. للأسف، يجب الإشارة أيضًا إلى أنّ المهاجرين أنفسهم يتحولون غالبًا إلى سلاح للابتزاز السياسي، إلى نوع من ”سلعة للمساومة“ تحرم الإنسانَ كرامتَه.
في هذا المقام، أريد أن أجدّد شكري وتقديري للسلطات الإيطالية، التي تمكن بفضلها بعض الأشخاص من القدوم معي إلى روما من قبرص واليونان. كانت لفتة بسيطة ولكن لها دلالتها. إلى الشعب الإيطالي، الذي عانى كثيرًا في بداية الجائحة، ولكنّه أظهر أيضًا علامات مشجعة على التعافي، أتمنّى أن يحافظ دائمًا على روح الانفتاح السخي والتضامن الذي يميزه.
في الوقت نفسه، أعتقد أنّه من الأهمية بمكان أن يجد الاتحاد الأوروبي تماسكه الداخلي في التعامل مع الهجرة، كما استطاع أن يكون في مواجهة عواقب الجائحة. من الضروري إنشاء نظام متماسك وشامل لإيجاد السياسات اللازمة للتعامل مع الهجرة وطالبي اللجوء، فيتم تقاسم المسؤوليات في استقبال المهاجرين، وإعادة النظر في طلبات اللجوء، وإعادة توزيع ودمج كلّ الذين يمكن قبلوهم. القدرة على التفاوض وإيجاد حلول مشتركة هي إحدى نقاط القوّة في الاتحاد الأوروبي، وهو بها نموذج صالح لمواجهة التحديات العالمية التي تنتظرنا.
ومع ذلك، فإنّ الهجرة لا تخص فقط أوروبا، ولو أنّها معنية بصورة خاصة بموجات اللاجئين القادمين من كلّ من إفريقيا وآسيا. شهدنا في السنوات الأخيرة، من بين ما شاهدنا، الهجرة الجماعية للاجئين السوريين، والتي أضيف إليها في الأشهر الأخيرة اللاجئون الذين فرّوا من أفغانستان. وينبغي ألّا ننسى الهجرات الجماعية في القارة الأمريكية، والتي تشتد على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية. العديد من هؤلاء المهاجرين هم من الهايتيين الفارين من المآسي التي عصفت ببلدهم في السنوات الأخيرة.
قضية الهجرة، وكذلك الجائحة وتغيّر المناخ، تُظهر بوضوح أنّه لا يمكن لأحد أن ينقذ نفسه وحده، أي أنّ التحديات الكبرى في زمننا كلّها عالمية. لذلك من المثير للقلق أن نرى أنّ المشاكل من جهة تزداد ترابطًا في ما بينها، بينما الحلول بالعكس تزداد تجزئة. وليس من النادر أن نجد البعض لا يريدون فتح نوافذ الحوار وبداية شيء من الأخوّة، وهذا ينتهي بتأجيج المزيد من التوترات والانقسامات، فضلًا عن الشعور العام بعدم اليقين وعدم الاستقرار. بدلاً من ذلك، ينبغي أن نستعيد الإحساس بهويتنا المشتركة كعائلة بشرية واحدة. البديل هو العزلة المتزايدة فقط، التي تميزت بسبب عمليات احتكار وإغلاقات متبادلة عرَّضت في الواقع التعددية للخطر، أي الأسلوب الدبلوماسي الذي ميّز العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تمر الدبلوماسية المتعددة الأطراف اليوم بأزمة ثقة منذ بعض الوقت، بسبب انحسار مصداقية الأنظمة الاجتماعية والحكومية وبين الحكومات. هناك قرارات مهمة وتصريحات، وأحكام، تتخذ أحيانًا من دون مفاوضات حقيقية ولا يكون لكلّ الدول رأي فيها. هذا الخلل، الذي أصبح واضحًا بشكل مأساوي اليوم، يولد الابتعاد تجاه المنظمات الدولية من جانب العديد من الدول، ويضعف النظام متعدد الأطراف ككل، ويجعله أقل فاعلية في مواجهة التحديات العالمية.
عدم فعالية العديد من المنظمات الدولية يرجع أيضًا إلى اختلاف الرؤى لدى الأعضاء للأهداف التي ينبغي أن يحددوها. ليس من النادر أن يتحوّل مركز الثقل في الاهتمام إلى قضايا هي بطبيعتها مثيرة للانقسام ولا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهدف المنظمة، وذلك نتيجة لأجندات تمليها بشكل متزايد فكرة تنكر الأسس الطبيعية للإنسانية والجذور الثقافية التي تشكل هوية العديد من الشعوب. كما أتيحت لي الفرصة لتأكيد ذلك في مناسبات أخرى، أعتقد أنّنا نتعرض لشكل من أشكال الاستعمار الأيديولوجي، الذي لا يترك مجالًا لحرية التعبير، والذي يصبح اليوم، بصورة متزايدة، ثقافة إلغاء، تغزو العديد من الأوساط والمؤسسات العامة. وباسم حماية التنوع، ينتهي بنا الأمر إلى إلغاء معنى كلّ هوية، مع المخاطرة بإسكات المواقف التي تدافع عن فكرة متوازنة تحترم الحساسيات المختلفة. إنّه يتم اليوم تطوير فكر واحد - خطير - مُجبَرٍ على إنكار التاريخ، وما هو أسوأ من ذلك، يعيد كتابة التاريخ على أساس قوالب فكرية معاصرة، مع أنّه يجب تفسير كلّ موقف تاريخي وفقًا لمفاهيم عصره، وليس وفقًا لمفاهيم اليوم.
لذلك، فإنّ الدبلوماسية متعددة الأطراف مدعوة إلى أن تكون ذات طابع شمولي حقًا، فلا تلغي بل تعترف بقيمة التنوع والحساسيات التاريخية التي تميّز مختلف الشعوب. بهذه الطريقة، تستعيد مصداقيتها وفعاليتها لمواجهة التحديات القادمة، التي تتطلب أن تتحد البشرية كعائلة كبيرة، والتي، ولو انطلقت من وجهات نظر مختلفة، يجب أن تكون قادرة على إيجاد حلول مشتركة لخير الجميع. وهذا يتطلب ثقة متبادلة واستعدادًا للحوار، أي "أن نصغي بعضنا إلى بعض، ونناقش بعضنا بعضًا، ونتّفق بعضنا مع بعض، ونسير معًا" [2]. علاوة على ذلك، فإنّ "الحوار هو أنسب طريقة للتعرف على ما يجب تأكيده واحترامه دائمًا، والذي هو أكثر من اتفاق عارض" [3]. يجب ألّا ننسى أبدًا أنّ "هناك بعض القيم الدائمة" [4]. ليس من السهل دائمًا التعرف عليها، لكن قبولها "يعطي صلابة واستقرارًا للأخلاق الاجتماعية. حتى عندما نعرفها ونقبلها بفضل الحوار والتوافق، نرى أنّ هذه القيم الأساسية تتجاوز كلّ توافق" [5]. أودّ بشكل خاص أن أذكّر بالحق في الحياة، منذ الحمل إلى النهاية الطبيعية، والحق في الحرية الدينية.
في هذه الرؤية، ازداد الوعي الجماعي في السنوات الأخيرة للضرورة الملحة لمواجهة قضية العناية ببيتنا المشترك، الذي يعاني من الاستغلال المستمر والعشوائي للموارد. في هذا الصدد، أفكّر بشكل خاص في الفلبين، التي ضربها إعصار مدمر في الأسابيع الأخيرة، وكذلك دول أخرى في المحيط الهادئ، المعرضة للآثار السلبية لتغير المناخ، والتي تتعرض فيه حياة السكان للخطر، إذ يعتمد معظمهم على الزراعة وصيد الأسماك والموارد الطبيعية.
وهذا الحدث بالتحديد هو الذي يجب أن يدفع المجتمع الدولي ككل لإيجاد حلول مشتركة ووضعها موضع التنفيذ. لا أحد يستطيع الهروب من هذا الجهد، لأنّنا جميعًا معنيون ومشاركون بالتساوي. في مؤتمر المناخ COP26 الأخير في غلاسكو، تم اتخاذ بعض الخطوات في الاتجاه الصحيح، ولو كانت ضعيفة نوعًا ما بالنظر إلى خطورة المشكلة التي يجب معالجتها. يبدو أنّ الطريق إلى تحقيق أهداف اتفاق باريس معقد وطويل، بينما الوقت المتاح ما زال ينفَد شيئا فشيئا. لا يزال هناك الكثير يجب القيام به، وبالتالي سيكون عام 2022 عامًا أساسيًا آخر للتحقق من مدى وكيفية تقوية ما تم تحديده في غلاسكو، بانتظار المؤتمر السابع والعشرين المقرر عقده في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل في مصر.
أصحاب السعادة، السيدات والسادة!
الحوار والأخوّة هما المحوران الأساسيان للتغلب على أزمات اللحظة الحالية. ومع ذلك، "على الرّغم من الجهود المتعدّدة الهادفة إلى الحوار البناء بين الدول، ما زال ضجيج الحروب والنزاعات يزداد ويصمّ الآذان" [6]، فيجب على كلّ المجتمع الدولي أن يتساءل عن الحاجة الملحة لإيجاد حلول للصراعات التي لا تنتهي، والتي تتخذ أحيانًا وجه حروب حقيقية، وحروب بالوكالة.
أفكّر أولاً في سوريا، حيث لا يلوح حتى الآن على الأفق أية إشارة واضحة لنهضة البلاد. وحتى اليوم، الشعب السوري يبكي موتاه، وفقدان كلّ شيء، ويأمل في مستقبل أفضل. هناك حاجة إلى إصلاحات سياسية ودستورية، حتى يولد البلد من جديد، ولكن من الضروري أيضًا ألّا تكون العقوبات المطبقة مؤثرة بشكل مباشر في الحياة اليومية، وأن تقدّم الإصلاحات بصيص أمل للسكان، الذين يزدادون كلّ يوم قربًا من لسعات الفقر.
ولا يمكننا أن ننسى الصراع في اليمن، وهو مأساة إنسانية تُنَفَّذ منذ سنوات في صمت، بعيدًا عن الأضواء الإعلامية وبشيء من اللامبالاة من المجتمع الدولي، ولا يزال يتسبب في وقوع العديد من الضحايا المدنيين، لا سيّما النساء والأطفال.
في العام الماضي، لم يتم إحراز أي تقدّم في عملية السّلام بين إسرائيل وفلسطين. أودّ حقًا أن أرى هذين الشعبين يعيدان بناء الثقة بينهما، ويستأنفان الحديث معًا مباشرة ليتوصلا إلى العيش في دولتين جنبًا إلى جنب، في سلام وأمن، دون كراهية وضغينة، وأن يتم الشفاء على أساس المغفرة المتبادلة.
عادت المخاوف لإيقاظ التوترات المؤسسية في ليبيا. وكذلك حوادث العنف على يد الإرهاب الدولي في منطقة الساحل، والصراعات الداخلية في السودان وجنوب السودان وإثيوبيا، حيث من الضروري أن "يكتشفوا من جديد طريق المصالحة والسّلام، بمواجهة صادقة تضع احتياجات السّكان في المقام الأوّل" [7].
إنّ اللامساواة العميقة والمظالم والفساد المستشري، فضلًا عن الأشكال المختلفة للفقر التي تهين كرامة الإنسان، ما زالت تؤجج الصراعات الاجتماعية في القارة الأمريكية أيضًا، حيث لا تساعد الاستقطابات التي تزداد حدة لحلّ المشاكل الحقيقية والملحة للمواطنين، ولا سيّما أشدهم فقرًا وضعفًا.
وفي أوكرانيا وجنوب القفقاز، يجب أن توجد ثقة متبادلة واستعداد لمواجهة سلمية، فتساعد جميع الأطراف لإيجاد حلول مقبولة ودائمة، وكذلك تجنب اندلاع أزمات جديدة في البلقان، ولا سيّما في البوسنة والهرسك.
الحوار والأخوّة أصبحا ضرورة ملحة جدًّا، لمواجهة الأزمة في ميانمار بحكمة وبصورة فعالة، فهي تضرب البلاد منذ سنة تقريبًا، حيث الشوارع التي كانت ذات يوم مكان لقاء أصبحت مسرحًا للاشتباكات، حتى أماكن الصّلاة لم تسلم مما يحدث.
بالطبع، كلّ النزاعات تسهلها كثرة الأسلحة المتوفرة وغياب الضمير في كلّ الذين يعملون على توفيرها. نتوَهم في بعض الأحيان أنّ السلاح يلعب فقط دورًا رادعًا ضد المعتدين المحتملين. لكن التاريخ يعلمنا، والأخبار اليومية أيضًا للأسف، أنّ الأمر ليس كذلك. الذين يمتلكون الأسلحة عاجلًا أم آجلاً ينتهي بهم الأمر إلى استخدامها، لأنّه، كما قال القديس بولس السادس، "لا يمكن للإنسان أن يحب وفي يده أسلحة مهددة" [8]. علاوة على ذلك، "عندما نستسلم لمنطق السلاح ونبتعد عن ممارسة الحوار، فإنّنا ننسى بشكل مأساوي أنّ الأسلحة، حتى قبل أن تصنع الضحايا والدمار، لها القدرة على توليد أحلام شر" [9]. وقد زادت هذه المخاوف الواقعية اليوم بسبب توفر واستخدام الأسلحة المستقلة، والتي يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة ولا يمكن التنبؤ بها، لذلك ينبغي أن تكون خاضعة لمسؤولية المجتمع الدولي.
بين الأسلحة التي أنتجتها البشرية، تثير الأسلحة النووية القلق الأكبر. في نهاية شهر كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، بسبب الجائحة، تمّ مرة أخرى تأجيل المؤتمر العاشر لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، الذي كان من المتوقع عقده في نيويورك في هذه الأيام الأخيرة. إنّ عالمًا خال من الأسلحة النووية أمرٌ ممكن وضروري. لذلك أتمنّى أن يغتنم المجتمع الدولي فرصة ذلك المؤتمر لاتخاذ خطوة مهمة في هذا الاتجاه.لا يزال الكرسي الرسولي ثابتًا في القول إنّ الأسلحة النووية أدوات غير ملائمة وغير مناسبة للرد على التهديدات الأمنية في القرن الحادي والعشرين، وإن حيازتها أمر غير أخلاقي. يؤدي تصنيعها إلى تحويل الموارد عن آفاق التنمية البشرية المتكاملة، كما أن استخدامها، بالإضافة إلى إحداث عواقب إنسانيّة وبيئية كارثية، يهدد وجود البشرية نفسه.
الكرسي الرسولي يرى أنّه مهمُّ بالمقدار نفسه استئناف المفاوضات في فيينا بشأن الاتفاق النووي مع إيران (خطة العمل الشاملة المشتركة) لأنّه يمكن أن يحقق نتائج إيجابية من أجل ضمان عالم أكثر أمانًا وأخوّة.
السفراء الأعزاء!
في رسالتي في مناسبة يوم السّلام العالمي الذي تمّ الاحتفال به في الأوّل من كانون الثاني/يناير الماضي، حاولت تسليط الضوء على العناصر التي أعتبرها ضرورية لتعزيز ثقافة الحوار والأخوّة.
للتربية بين تلك العناصر مكانة خاصة، فهي التي تكوِّن الأجيال الجديدة، أمل ومستقبل العالم. إنّها الناقل الأساسي للتنمية البشرية المتكاملة، لأنّها تجعل الشخص حرًّا ومسؤولًا [10]. العملية التربوية بطيئة وشاقة، وفي بعض الأحيان يمكن أن تؤدي إلى الإحباط، لكن لا يمكن التخلي عنها أبدًا. إنّها تعبير مهم عن الحوار، لأنّه لا توجد تربية لا تنشئ على الحوار. والتربية تلِد الثقافة، وتبني جسور لقاء بين الشعوب. أراد الكرسي الرسولي التأكيد على قيمة العملية التربوية بالمشاركة في معرض دبي 2021، في دولة الإمارات العربية المتحدة، فأقام جناحًا خاصًّا مستوحى من موضوع المعرض: ”التواصل بين العقول وصنع المستقبل“.
اعترفت الكنيسة الكاثوليكية دائمًا بدور التربية، وأعلت من شأنها، في مجال التنمية الروحية والأخلاقية والاجتماعية للأجيال الجديدة. لذلك من المؤلم للغاية أن أرى كيف تم ارتكاب سوء معاملة أطفال في أماكن تعليمية مختلفة – في الرعايا والمدارس - مع ما تبعها من عواقب نفسية وروحية خطيرة للأشخاص الذين عانوا منها. هذه جرائم، ويجب أن تكون هناك إرادة قويّة لتوضيح الأمور، وغربلة كلّ حالة بمفردها، وتحديد المسؤوليات، وإنصاف الضحايا، ومنع وقوع فظائع مماثلة مرة أخرى في المستقبل.
على الرّغم من خطورة مثل هذه الأعمال، لا يمكن لأي مجتمع أن يتنازل عن مسؤوليته في التربية. من المؤلم أن نلاحظ، مع ذلك، في ميزانيات الدولة، أنّه يتم غالبًا تخصيص موارد قليلة للتربية. فيُنظر إليها بشكل أساسي على أنّها تكلفة ونفقة، مع أنّها أفضل استثمار ممكن.
حرمت الجائحة العديد من الشباب من الوصول إلى المؤسسات التربوية، فأضر ذلك بعملية نموهم الشخصي والاجتماعي. وجد كثيرون، من خلال الأدوات التكنولوجية الحديثة، ملاذًا في الواقع الافتراضي، الذي يخلق روابط نفسية وعاطفية قوية جدًا، مما يؤدي إلى الابتعاد عن الآخرين وعن الواقع المحيط، وإلى تغيير العلاقات الاجتماعية بشكل جذري. لا أقصد بهذا بالتأكيد إنكار فائدة التكنولوجيا ومنتجاتها، والتي تسمح لنا بالاتصال بشكل أسهل وأسرع، لكنّني أريد أن أنبّه على الحاجة الملحة للسهر حتى لا تحل هذه الأدوات محل العلاقات الإنسانية الحقيقية، على المستوى الشخصي والعائلي والاجتماعي والدولي. إذا تعلّم المرء أن يعزل نفسه في سن مبكر، سيكون من الصعب عليه في المستقبل أن يبني جسور الأخوّة والسّلام. في عالم حيث يوجد ”أنا“ فقط، بصعوبة يوجد مكان لـ ”نحن“.
العنصر الثاني الذي أودّ أن أذكره بإيجاز هو العمل، فهو "مقوّمٌ لا غنى عنه لبناء السّلام والحفاظ عليه. إنّه تعبير عن الذات وعن المواهب الخاصّة، ولكنّه أيضًا التزام، وجهد، وتعاون مع الآخرين، لأنّنا نعمل دائمًا مع أو من أجل شخصٍ آخر. من هذا المنظور الاجتماعي الملحوظ، يكون العمل المكان الذي فيه نتعلّم أن نقدّم مساهمتنا من أجل عالم يزداد جمالًا وقابليّة للعيش" [11].
فُرِضَ علينا أن نرى كيف عرَّضت الجائحة الاقتصاد العالمي لأزمة شديدة، مع تداعيات خطيرة على العائلات والعمال، الذين يعيشون في أوضاع ضائقة نفسية، حتى قبل الصعوبات الاقتصادية. وقد سلطت الضوء بشكل أكبر على التفاوتات المستمرة في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية. لنفكر مثلًا في إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة والغذاء والتعليم والرعاية الطبية. إنّ عدد الأشخاص المصنفين في فئة الفقر المدقع ازداد زيادة كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، أدّت الأزمة الصحية بالعديد من العمال إلى تغيير نوع العمل، وأجبرتهم أحيانًا على دخول اقتصاد الظل، وبالتالي حُرِموا من أنظمة الحماية الاجتماعية المتوفرة في البلدان العديدة.
في هذا السياق، يكتسب الوعي بقيمة العمل أهمية أكبر، إذ لا توجد تنمية اقتصادية بدون عمل، ولا يمكننا أن نعتقد أنّ التقنيات الحديثة يمكن أن تحل محل القيمة المضافة التي يوفرها العمل البشري. إنّها أيضًا فرصة لاكتشاف كرامة الشخص، واللقاء والنمو البشري، وهي طريقة مميزة لمشاركة كلّ فرد في النشاط من أجل الخير العام، ولمساهمته بشكل ملموس في بناء السّلام. في هذا المجال أيضًا، هناك حاجة إلى مزيد من التعاون بين جميع العاملين على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية، لا سيّما في الفترة المقبلة، مع التحديات التي يطرحها التحوّل البيئي المأمول. ستكون السنوات القادمة فرصة سانحة لتطوير خدمات ومشاريع جديدة، وتكييف الخدمات القائمة، وزيادة إمكانية الوصول إلى العمل الكريم، والعمل من أجل احترام حقوق الإنسان وتحديد مستويات أجور كافية، والحماية الاجتماعية.
أصحاب السعادة، السيدات والسادة!
يذكر النبي إرميا أنّ أفكار الله لنا "هي أفكار سلام لا بلوى، ”ليمنحنا“ بقاء ورجاء" (29، 11). لذلك يجب ألّا نخاف من إفساح المجال للسّلام في حياتنا، من خلال تنمية الحوار والأخوّة بيننا. السّلام خير ”مُعدٍ“ ينتشر في قلوب طالبيه وقلوب الذين يطمحون في أن يعيشوه، مرتبطين بالعالم أجمع. إلى كلّ واحد منكم وأحبائكم وشعوبكم، أجدّد بركتي وأصدق أمانيَّ لسنة طمأنينة وسلام.
شكرًا.
[1] راجع الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، (24 تشرين الثاني/نوفمبر 2013)، 226-230.
[2] رسالة في مناسبة اليوم العالمي الخامس والخمسين للسّلام (8 كانون الأوّل/ديسمبر 2021)، 2.
[3] رسالة بابوية عامة، Fratelli tutti ” كلّنا إخوة“ (3 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020)، 211.
[4] المرجع نفسه.
[5] المرجع نفسه.
[6] رسالة في مناسبة اليوم العالمي الخامس والخمسين للسّلام، 1.
[7] رسالة إلى مدينة روما والعالم، 25 كانون الأوّل/ديسمبر 2021.
[8] كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (4 تشرين الأوّل/أكتوبر 1965)، 5.
[9] لقاء من أجل السلام، هيروشيما، 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
[10] راجع رسالة في مناسبة اليوم العالمي الخامس والخمسين للسّلام، 3.
[11] رسالة في مناسبة اليوم العالمي الخامس والخمسين للسّلام، 4.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana