الزيارة الرسوليّة إلى قبرص واليونان
كلمة قداسة البابا فرنسيس
في الزيارة إلى غبطة رئيس الأساقفة إيرونيموس الثاني، رئيس أساقفة أثينا واليونان
في مقر رئيس الأساقفة في أثينا - اليونان
السبت 4 كانون الأوّل/ديسمبر 2021
__________________________________________
صاحب الغبطة،
"نِعمَةٌ وسَلامٌ مِن لَدُنِ اللهِ" (الرّسالة إلى أهل رومة 1، 7). أحيّيك بهذه الكلمات التي قالها الرّسول الكبير بولس، وهي الكلمات نفسها التي وجّهها إلى المؤمنين من أهل رومة، أثناء تواجده على أرضٍ اليونان. لقاؤنا اليوم يجدّد هذه النّعمة وهذا السّلام. عندما كنت أصلّي أمام أثار كنيسة روما، أضرحة الرّسل والشّهداء، شعرتُ بدافعٍ يدفعُني لأن آتي إلى هنا حاجًّا، باحترامٍ وتواضعٍ كبيرَين، من أجل تجديد تلك الشّركة الرّسوليّة وتغذية المحبّة الأخويّة. بهذا المعنى، أودّ أن أشكرك، يا صاحب الغبطة، على الكلمات التي وجّهتها إليّ والتي أبادلُك إيّاها بمودّة، وأحيّي من خلالك، الإكليروس، والجماعات الرهبانيّة وكلّ المؤمنين الأرثوذكسيين في اليونان.
التقينا قبل خمس سنوات في لسبوس، في حالة الطّوارئ الأكثر مأساويّة في عصرنا، وهي مأساة الكثير من الإخوة والأخوات المهاجرين، الذين لا يمكننا أن نتركهم في اللامبالاة، وننظر إليهم على أنّهم عبءٌ يجب تحمله، أو أسوأ من ذلك، أن نلقي مسؤوليته على أيٍّ كان غيرنا. اجتمعنا معًا الآن لنتشارك فرح الأخوّة، ولننظر إلى البحر الأبيض المتوسّط الذي يحيط بنا، ليس فقط على أنّه مكان يحمل إلينا القلق والانقسام، ولكن أيضًا على أنّه بحرٌ يوحّد. ذكرتُ قبل قليل أشجار الزّيتون المعمّرة التي توحّد الأراضي حولها. وبالتّفكير في هذه الأشجار التي تقرب بيننا، أفكّر في الجذور التي نتشاركها. إنّها تحت الأرض، مخفيّة، وغالبًا منسية، لكنّها موجودة وتحمل كلّ شيء. ما هي جذورنا المشتركة التي مرّت عليها القرون؟ إنّها الجذور الرّسوليّة. كان القدّيس بولس يسلط الضوء عليها ويذكّرنا بأهمّيّة أن نكون "مَبنِيّين على أَساسِ الرُّسُلِ" (الرّسالة إلى أهل أفسس 2، 20). هذه الجذور التي نمت من بذار الإنجيل والمطعّمة في الثقافة الهيلينيّة/اليونانيّة، فيها بدأت تعطي ثمارًا كثيرة: أفكّر في الآباء القدامى الكثيرين والمجامع المسكونيّة الكبرى الأولى.
للأسف، بعد ذلك، تفرّقنا وكبرنا مبتعدين. أصابتنا عدوى السّموم الدنيويّة، وزاد زؤان الاتهام المسافة بيننا، وتوقّفنا عن تنمية الشّركة بيننا. أكّد القدّيس باسيليوس الكبير أنّ التّلاميذ الحقيقيّين للمسيح "مصوَّرون فقط على ما يرونه فيه" (أخلاق، 80، 1). بخجل – أعترف من جانب الكنيسة الكاثوليكيّة – أنّ أعمالًا ومواقف لا علاقة لها بيسوع والإنجيل، بل كانت مشبعة بعطش المكاسب والسلطة، هي التي أماتت الشركة بيننا. وهكذا تركنا الانقسامات تفسد الخصوبة والحياة. وكان للتّاريخ دوره في هذا، وأشعر هنا اليوم بالحاجة إلى تجديد طلب الغفران إلى الله والإخوة على الأخطاء التي ارتكبها الكثير من الكاثوليكيين. لكنّه عزاءٌ كبيرٌ لنا، أنّنا على يقين بأنّ جذورنا رسوليّة، وأنّه على الرّغم من تشوّهات العصر، فإنّ نبتة الله تنمو وتؤتي ثمارًا في الرّوح نفسه. وهي نعمة أن نعترف بثمار بعضنا البعض، وأن نشكر الرّبّ يسوع معًا على هذا.
والثّمرة الأخيرة لشجرة الزّيتون هو الزّيت، الذي كان يُحفظ في السّابق ضمن أوانٍ ومصنوعاتٍ يدويّة ثمينة، والتي نجدها بكثرة بين الكنوز الأثريّة لهذا البلد. قدّم الزّيت النّور الذي أضاء ليالي العصور القديمة. وكان مدة آلاف السّنين "الشّمس السّائلة، والحالة السرية الأولى لشعلة المصابيح" (خريستوفر بورو، نباتات الكتاب المقدّس ورموزها، باريس 2014، 65). بالنّسبة لنا، أيّها الأخ العزيز، يجعلنا الزّيت نفكّر في الرّوح القدس الذي وَلَد الكنيسة. والرّوح القدس فقط، بنوره الذي لا يغيب، يمكنه أن يبدّد الظّلام ويضيء خطوات مسيرنا.
نعم، لأنّ الرّوح القدس هو قبلَ كلّ شيء زيت الشّركة. يتكلّم الكتاب المقدّس على الزّيت الذي يُنَضِّر وجه الإنسان (راجع سفر المزامير 104، 15). كم نحن بحاجة اليوم إلى أن نعترف بالقيمة الفريدة التي تتألّق في كلّ إنسان، وفي كلّ أخ! وإدراك هذه الوَحدة الإنسانيّة هو نقطة البداية لبناء الشّركة. ولكن للأسف، مثلما كتب أحد اللاهوتيّين الكبار: "يبدو أنّ الشّركة تضرب على الوتر الحسّاس"، وهو عصب مكشوف، ليس فقط في المجتمع، ولكن في كثير من الأحيان أيضًا بين تلاميذ يسوع، "في عالم مسيحيّ تغذّيه الفرديّة والجمود المؤسّسي". ومع ذلك، إذا كانت التّقاليد الخاصّة ومميّزات كلّ واحدٍ تقود إلى الدفاع عن نفسها وأخذ المسافة من الآخرين، وإذا "لم تكن الغيرية موسومة بالشركة، فإنّه من الصعب أن تلد ثقافة مُرضية" (يوانيس زيزيولاس، الشّركة والاختلاف، روما 2016، 16). تحمل الشّركة بين الإخوة البركة الإلهيّة. وتشبّهها المزامير بـ "الزَّيتِ الطَّيِّبِ على الرَّأْسِ، والنَّازِلِ على اللِّحْيَة" (سفر المزامير 133، 2). لذلك، يدفعنا الرّوح الذي ينسكب في أذهاننا إلى مزيد من الأخوّة، وإلى أن نبني أنفسنا في الشّركة. لا نخف بعضنا بعضًا، إذًا، بل لنساعد بعضنا بعضًا على عبادة الله وخدمة قريبنا، من دون البحث عن أتباع لنا، ولنحترم حرّيّة الآخرين احترامًا كاملًا، لأنّه - مثلما كتب القدّيس بولس - "حَيثُ يَكونُ رُوحُ الرَّبّ، تَكون الحُرِّيَّة" (الرّسالة الثّانية إلى أهل قورنتس 3، 17). أُصلّي حتّى يتغلّب روح المحبّة على مقاوماتنا، ويجعلنا بناة للشركة، لأنّه "إذا نجحت المحبّة حقًّا في القضاء على الخوف وتحوّل الخوف إلى محبّة، سنكتشف حينئذ أنّ ما يُنقِذنا هو الوِحدة" (القدّيس غريغوريوس النّيصي، العظة 15 في سفر نشيد الأناشيد). من ناحية أخرى، كيف يمكننا أن نشهد أمام العالم للانسجام في الإنجيل، إن كنّا نحن المسيحيّين ما زلنا منفصلين؟ وكيف يمكننا أن نعلن محبّة المسيح التي تجمع النّاس، إن لم نكن متّحدين فيما بيننا؟ لقد تمّ إنجاز الكثير من أجل أن نلتقي. لنبتهل إلى روح الشّركة، حتّى يدفعنا في طُرُقِه، ويساعدنا على تأسيس الشّركة، ليس على الحسابات والاستراتيجيّات والمصالح، بل على النّموذج الوحيد الذي يجب أن ننظر إليه وهو: الثّالوث الأقدس.
ثانيًا، الرّوح القدس هو زيت الحكمة. لقد مَسَحَ المسيح ويريد أن يلهم المسيحيّين. في الطاعة لحكمته الوديعة، لنَنْمُ في معرفة الله ولننفتح على الآخرين. بهذا المعنى، أودّ أن أعبّر عن تقديري للأهميّة التي تكرّسها هذه الكنيسة الأرثوذكسيّة، وريثة أوّل انثقاف كبير للإيمان، في الثّقافة الهيلينيّة/اليونانيّة، للتّنشئة والإعداد اللاهوتي. أودّ أيضًا أن أذكّر بالتّعاون المثمر في المجال الثّقافي بين هيئة Apostolikí Diakonía لكنيسة اليونان - التي سُرّرت بلقاء ممثّليها في عام 2019 - والمجلس الحبري لتعزيز وَحدة المسيحيّين، بالإضافة إلى أهميّة المؤتمرات بين المسيحيّين، التي روّجت لها كلّيّة اللاهوت الأرثوذكسيّة في جامعة سالونيكا مع جامعة الأنطونيانوم الحبريّة في روما. سمحت هذه المناسبات بإنشاء علاقات ودّيّة وبدء تبادل مفيد بين الأكاديميّين من كنائسنا. وأشكر أيضًا كنيسة اليونان الأرثوذكسيّة على مشاركتها الفعّالة في اللجنة الدوليّة المشتركة للحوار اللاهوتي. ليساعدنا الرّوح القدس في الاستمرار بحكمة في هذه المسارات!
أخيرًا، الرّوح القدس نفسه هو زيت التّعزية: أي المؤيّد الذي يبقى قريبًا مِنَّا، وبَلسَمًا للنَّفس، وشفاءً للجراح. مَسَحَ الرّوح القدس المسيح حتّى يُعلِنَ البشارة للفقراء، وللمأسورين تخلية سبيلهم، والفَرَج للمظلومين (لوقا 4، 18). ولا يزال يدفعنا إلى الاهتمام بالأضعفين والأكثر فقرًا، وإلى توجيه نظر العالم إلى قضيّتهم، التي هي قضيّة أساسيّة في نظر الله. هنا، كما في كلّ مكان آخر، كان الدّعم المقدّم لِمَن هُم أكثر احتياجًا، خلال أصعب فترات الأزمة الاقتصاديّة، أمرًا لا غنى عنه. لنطوّر معًا أشكالًا من التّعاون في أعمال المحبّة، ولنَنفَتِح ونتعاون في القضايا الأخلاقيّة والاجتماعيّة لخدمة البشر في عصرنا، ونحمل لهم تعزية الإنجيل. في الواقع، يدعونا الرّوح القدس اليوم أكثر من الماضي، إلى شفاء جراح البشريّة بزيت المحبّة.
طلب المسيح نفسه من تلاميذه في لحظة الضّيق، عزاء القُرْبِ والصّلاة. وهكذا، تقودنا صورة الزّيت إلى بستان الزّيتون. قال يسوع: "أُمكُثوا هُنا وٱسهَروا" (مرقس 14، 34)، كان طلبه إلى الرّسل في صيغة الجّمع. اليوم أيضًا يريدنا أن نسهر ونصلّي: حتّى نحمل إلى العالم تعزية الله، ونشفي علاقاتنا الجريحة، يجب علينا أن نصلّي من أجل بعضنا البعض. هذا ضروريّ من أجل الوصول إلى "ضرورة تنقية الذاكرة التاريخية. وبنعمة الرّوح القدس، إنّ تلاميذ الرّبّ، وقد أنعشتهم المحبّة وشجاعة الحقيقة والإرادة الصادقة في تبادل الغفران والمصالحة، لمدعوّون إلى إعادة النظر معًا في ماضيهم المؤلم، وفي الجراحات التي لا يزالون يتسبّبون فيها، وللأسف حتى يومنا الحاضر" (القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة العامة، لِيَكونوا واحداً ”Ut unum sint“، 2).
على هذا يحثّنا الإيمان بالقيامة بشكلٍ خاص. تصالح الرّسل، الخائفون والمتردّدون، مع خيبة الأمل المدمرة التي عاشوها بعد الآلام، عندما رأوا الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات أمامهم. ومن جروحه نفسها التي بَدَا شفاؤها مستحيلًا، استقوا أملًا جديدًا، ورحمةً غير مسبوقة، ومحبّةً أعظم من أخطائهم وبؤسهم، بإمكانها أن تحوّلهم إلى جسد واحد، يوحّده الرّوح القدس مع تعدّد واختلاف أعضائه. ليحلّ علينا روح المصلوب والقائم من بين الأموات، وليعطينا "نظرة صافية وهادئة في الحقيقة، تحيّيها رحمة إلهيّة، قادرة على أن تحرّر الأرواح، وتثير في كلّ واحد منّا استعدادًا جديدًا للحياة" (المرجع نفسه). ليساعدنا على ألّا نبقى عاجزين بسبب سلبيّات الماضي والأحكام المسبقة القديمة، بل لننظر إلى الواقع بعيون جديدة. عندئذٍ، ستُفسِحُ ضيقات الماضي المجال لتعزية الحاضر، وسوف نتعزّى بكنوز النّعمة التي سنكتشفها في الإخوة. لقد بدأنا منذ فترة قصيرة، نحن الكاثوليك، مسارًا لتعميق عمل السينودس، ونشعر أنّ هناك الكثير لنتعلّمه منكم. نريد ذلك صادقين، ونحن متأكّدون أنّه عندما يقترب الإخوة في الإيمان، تنزل تعزية الرّوح القدس في القلوب.
صاحب الغبطة، وأخي العزيز، يرافقنا في هذه المسيرة العديد من القدّيسين اللامعين في هذه الأرض، والشّهداء، الذين للأسف، هم أكثر عددًا في العالم اليوم، ممّا كانوا عليه في الماضي. هم من كنائس مختلفة على الأرض، ويعيشون معًا في السّماء نفسها. ليتشفّعوا حتّى يَفِيضَ علينا الرّوح القدس، زيت الله المقدّس، في عنصرة متجدّدة، مثلما فَاضَ على الرّسل الذين ننحدر منهم: وليوقد في قلوبنا الرّغبة في الشّركة، وينيرنا بحكمته ويمسحنا بتعزيته.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana