CANDOR LUCIS AETERNAE
للحبْرِ الأعظم البابا فرنسيس
في الذكرى المئويّة السابعة لوفاة
دانتي أليغييري
رَوْعَةُ النُّورِ الأَبَدِيّ، تجسّدت كلمة الله من مريم العذراء عندما أجابت "هاءَنذا" على بشارة الملاك (را. لو 1، 38). اليوم الذي تحتفل به الليتورجيّا بهذا السرّ الّذي لا يوصف، له أيضًا معنًى خاصًّا بالنسبة للواقعة التاريخيّة والأدبيّة للشاعر العظيم دانتي أليغييري، نبيّ الرجاء وشاهد على العطش للّامحدود المتأصّل في قلب الإنسان. لذلك، في هذه المناسبة، أودُّ أنا أيضًا أن أنضمّ إلى هذا الجوق العديد من الذين يريدون تكريم ذكراه في الذكرى المئويّة السابعة لوفاته.
في الواقع، وفقًا لتقويم أسلوب التجسّد، كان يبدأ العام الجديد في فلورنسا يوم الخامس والعشرين من شهر مارس/آذار. كان هذا التاريخ، القريب من الاعتدال الربيعيّ ومن منظور عيد الفصح، مرتبطًا سواءً بخَلقِ العالم أَمْ بالفداء الذي قام به المسيح على الصّليب، أي بداية الخليقة الجديدة. لذلك، في ضوء الكلمة المتجسِّد، يدعونا إلى التأمُّل في مخطّط الحبّ والذي هو القلب نفسهُ ومصدر الإلهام لأشهر أعمال الشاعر، الكوميديا الإلهيّة[1]، والتي يُذكر في نشيدها الأخير حدَث التجسّد من قِبَلِ القدّيس بيرنارد مع هذه الآيات الشهيرة: «في أحشائك اشتعلت المحبة / التي نبتت بفضل حرارتها هذه الزهرة / في السّلام الأبدي» (الفردوس، 33، 7- 9).
قدّم دانتي قبلاً في المطهر، مشهد البشارة، منحوتًا على حائط صخري (10، 34- 37. 40- 45)
لا يمكن أن يغيب إذًا، في هذه المناسبة، صوت الكنيسة الذي يشترك بالإجماع في إحياء ذكرى الإنسان والشاعر دانتي أليغييري. استطاع أن يعبّر، بواسطة جمال الشِّعر، وبشكلٍ أفضل بكثير من غيره، عن عُمق سرِّ الله والحُبّ. شِعْرُهُ، أسمى تعبير عن العبقريّة الإنسانيّة، هو ثمرة إلهامٍ جديدٍ وعميق، حيثُ الشَّاعر يُدْرِكُهُ عندما يتحدّث عنه كما لو أنّه «قصيدة مباركة / كان لكلٍّ من الأرضِ والسماءِ يدٌ فيها» (الفردوس، 25، 1- 2).
بهذه الرسالة الرسوليّة أودّ أن أضمَّ صوتي إلى صوت أسلافي الذين كرّموا واحتفلوا بالشاعر، خصوصًا في مناسبة ذكرى ولادتهِ وموتهِ، لتقديمهِ من جديد إلى عناية الكنيسة، وإلى جميع المؤمنين، وإلى علماء الأدب، وإلى اللّاهوتيّين، وإلى الفنّانين. سَأَسْتَذكِرُ بإيجاز هذه المداخلات، مُرَكِّزًا انتباهي على بابوات القرن الماضي وعلى أهمّ وثائقهم.
1. مِن أقوال البابوات في القرن الماضي عن دانتي أليغييري
قبل قرنٍ من الزمن، في العام 1921، في مناسبة الذّكرى المئويّة السادسة لوفاة الشاعر، أَحْيَا بنديكتُس الخامس عشر، جامعًا الأفكار البارزة من الأحبار السابقين، خاصّةً من ليون الثالث عشر والقدّيس بيوس العاشر، ذكرى دانتي سواء برسالة عامّة[2]، أَمْ بالترويج لأعمال الترميم لكنيسة القديس بطرس الكبير في رافينّا، والتي يُطلَق عليها شعبيًّا اسمَ كنيسة القدّيس فرنسيس، حيثُ احتُفِل بجنازة أليغييري وتمّ دفنه في مدافنها. وتقديرًا للمبادرات العديدة الهادفة إلى إحياء هذه الذكرى، طالب البابا بحقّ الكنيسة، «التي كانت له أُمًّا»، أن تلعبَ دورًا أساسيًا في هذه التذكارات، تكريمًا لدانتي[3]. كان قد سبق وعبّر بنديكتُس الخامس عشر، في رسالة وجّهها إلى رئيس أساقفة رافينّا، المونسنيور باسكوال مورجانتي، والتي من خلالها صادق على برنامج الاحتفالات المئويّة، عن دوافع مشاركته قائلًا: «علاوة على ذلك (وهذا هو الأهم)، هناك سبب معين يجعلنا نعتقد أنه ينبغي الاحتفال بذكرى ميلاده الاحتفاليّة بامتنان شديد وبموافقة كبيرة من الشعب، لأنّ أليغييري هو لنا [...] في الواقع، من يستطيع أن ينكر أن دانتي قد غذّى وعزّز شعلة البراعة والفضيلة الشعريّة مُستمدِّاً الإلهام من العقيدة الكاثوليكيّة، لدرجة أنّه غنّى رموز أسرار الدّين في قصيدة شبه إلهيّة؟»[4].
في لحظةٍ تاريخيّة اتّسمت بمشاعر العِداء للكنيسة، أكّد الحبر الأعظم، في الرسالة المذكورة، على انتماء الشاعر إلى الكنيسة، «اتحاد دانتي الحميم مع كرسي بطرس هذا»؛ بَل، أكّد أن عمله، على الرّغم من كونه تعبيرًا عن «الاتساع الهائل وحِدَّة براعته»، إلّا أنّه استمدّ «اندفاعًا قويًّا من الإلهام» تحديدًا من الإيمان المسيحيّ. لهذا السبب، تابع بنديكتُس الخامس عشر، «يجب ألّا نعجب فيه فقط لسموّ عبقريّته، ولكن أيضًا لرحابة الموضوع الذي قدَّمهُ الدين الإلهي لأنشودته». وأثنى عليه، رادّاً بشكل غير مباشر على أولئك الذين أنكروا أو انتقدوا الأصالة الدينيَّة لعمله: «التقوى نفسُها التي فينا تنفح في ألغييري؛ إيمانه له المشاعر نفسُها. [...] هذا هو مدحه الرئيسيّ: لكونه شاعرًا مسيحيًّا ولأنّه غنّى بلهجات إلهيّة تقريبًا المُثُل المسيحيّة التي تأمَّل بكلِّ روحه في جمالها وروعتها». إنّ عمل دانتي - تَابَع الحبر الأعظم - هو مثال بليغ وصحيح «لإثبات مدى خطأ أنّ احترام العقلِ والقلبِ لله يقطع أجنحة الذكاء، بينما هو يحفّزها ويرفعها». لهذا السبب، تابع البابا، «التعاليم التي تركها لنا دانتي في جميع أعماله، ولكن بشكلٍ خاص في قصيدته الثلاثيّة» يمكنها أن تكون «بمثابة دليل صالح جدًّا لرجال عصرنا» وخاصة للطلاب والباحثين، بما أنّه «في تأليف قصيدته، لم يكن له غرض آخر سوى رفع البشر من حالة البؤس، أي من الخطيئة، وقيادتهم إلى حالة النعيم، أي النعمة الإلهيّة».
من ناحية أخرى، ترتبط مداخلات القدّيس بولس السادس المتنوّعة بالذكرى المئوية السابعة لميلاده في العام 1965. في 19 سبتمبر/أيلول، تبرع بصليب ذهبي لإغْنَاء معبد رافينّا الصغير الذي يحفظ قبر دانتي، والذي كان خاليًا حتّى ذلك الوقت من «علامة الدين والرجاء هذه»[5]. في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، أرسل إكليلًا من الغار الذهبي إلى فلورنسا ليتمَّ ترصيعُهُ داخل مبنى أو في حَوضِ معموديّة القديس يوحنّا. أخيرًا، في ختام أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، أراد أن يتبرّع بطبعة فنّيّة من الكوميديا الإلهّية لآباء المجمع. ولكن قبل كلّ شيء، كرّم ذكرى الشاعر العظيم بالرسالة الرسولية Altissimi cantus[6]، التي أعاد فيها التأكيد على الرابط القوي بين الكنيسة ودانتي أليغييري: «إذا أراد أحدٌ أن يسأل، لماذا الكنيسة الكاثوليكية، بأمرٍ من رأسها المرئيّ، تأخذ على عاتقها إحياء الذكرى والاحتفال بمجد شاعر فلورنسا، جوابنا بسيط: لأنّه، بحقٍّ خاصّ، دانتي هو لنا! هو لنا، ونعني بهذا أنّه ينتمي إلى الإيمان الكاثوليكي، لأنّه كان يَنْفَحُ حبّ المسيح بكلّ كيانه؛ هو لنا لأنّه أحبّ الكنيسة كثيرًا، وتغنّى بأمجادها؛ وهو لنا لأنّه رأى نائبَ المسيح في الحبر الروماني وكرّمه».
ولكن هذا الحقّ، تابع البابا، بعيدًا عن أن يحثّ إلى التباهي، يمثّل أيضًا التزامًا: «دانتي هو لنا، يمكننا أن نكرّر؛ ونحن نؤكّد هذا ليس لجعله انتصارًا توّاقًا إلى المجد الأنانيّ، ولكن بالحريّ لتذكير أنفسنا بواجب الاعتراف به على هذا النحو، واستكشاف كنوز الفكر والمشاعر المسيحيّة التي لا تقدّر بثمن في عمله، نظرًا لقناعتنا أنّ وحده الذي يتغلغل في الرّوح الدينيّة للشاعر الأسمى يستطيع أن يفهم بعمق ويتذوق الثروات الروحيّة الرائعة». وهذا الالتزام لا يعفي الكنيسة من قبول كلمات النقد النبويّة التي قالها الشاعر ضد الذين وَجَبَ عليهم أن يبشّروا بالإنجيل وأن يمثّلوا المسيحَ لا أنفسهم: «لا نأسف لتَّذكّر أن صوت دانتي كان قد عَلَا وضَربَ بشدَّة أكثر من حَبْرٍ رومانيّ، وكان لديه توبيخ مرير للمؤسّسات الكنسيّة وللأشخاص الذين كانوا خُدامًا وممثلي الكنيسة»؛ ومع ذلك، يبدو من الواضح أنّ «مواقفه الفخورة لم تهزّ أبدًا إيمانه الكاثوليكي الراسخ وعاطفته البنويّة للكنيسة المقدّسة».
لذلك أوضح بولس السادس الخصائص التي تجعل من قصيدة دانتي مصدرًا للثراء الرّوحي في متناول الجميع: «قصيدة دانتي عالميّة: في اتساعها الهائل، تعانق السماء والأرض، الخلود والزمن، أسرار الله ووقائع البشر، العقيدة المقدّسة وتلك المستمدّة من نبراسِ العقل، معطيات التجربة الشخصية وذكريات التاريخ». ولكن قبل كلّ شيء، حدّد الغرض الجوهري لعمل دانتي وخاصّة الكوميديا الإلهّية، وهو هدف لم يتم تقديره وتقييمه بشكل واضح دائمًا: «إنّ الغرض من الكوميديا الإلهّية عمليّ وتحوّلي في المقام الأول. لا تقترح فقط أن تكون جميلة شعريًا وصالحةً أخلاقيًّا، ولكن قادرة على تغيير الإنسان جذريًّا ونقله من الفوضى إلى الحكمة، ومن الخطيئة إلى القداسة، ومن البؤس إلى السعادة، ومن التأمل المرعب في الجحيم إلى ذاك المطوّب في الفردوس».
اهتَمَّ البابا، في لحظة تاريخيّة مليئة بالتوتّرات بين الشعوب، بِمِثَالِ السّلام، وقد وجد في عمل الشاعر فكرة ثمينة أراد أن يعزّزها ويبثّها: «هذا السّلام للأفراد، والعائلات، والأمم، والمجتمع البشري، الذي هو سلامٌ داخليّ وخارجيّ، سلامٌ فرديّ وعام، هدوء النظام، هو مضطّربٌ ومُهتَزٌّ، لأنّ التقوى والعدل قد انتُهِكا. ولإعادة النظام والخلاص، الإيمان والعقل مدعوّان للعمل في انسجام بينهما وكذلك، بياتريتشه وفيرجيليو، الصّليب والنسر، الكنيسة والإمبراطوريّة». في هذا السّياق، عرّف العمل الشعري من منظور السّلام: «الكوميديا الإلهيّة هي قصيدة السّلام: الجحيم هو أغنية كئيبة لسلام قد فُقِدَ إلى الأبد، المطهر هو أغنية عَذْبَة للسلام المرجوّ، الفردوس هو انتصار عظيم لسلام نملكه كلّيًا وإلى الأبد».
من هذا المنظور، تابع الحبر الأعظم: الكوميديا «هي قصيدة التحسين الاجتماعيّ في نَيلِ الحريّة، والتي هي إعفاءٌ من استعباد الشرّ، والتي تقودنا إلى العثور على الله ومحبته [...] معترفين بالإنسانيّة، التي نعتقد أنّ صفاتها واضحة للغاية». لكن بولس السادس كرّر أيضًا ما هي صفات إنسانيّة دانتي: «في دانتي، يتمّ التعرّف على جميع القيم الإنسانيّة (الفكريّة والأخلاقيّة والعاطفيّة والثقافيّة والمدنيّة)، وتعظيمها؛ والمهم جدًّا أن نشير إليه، هو أنّ هذا التقدير والشرف يحدث عندما يغوصُ في الإلهيّ، عندما كان من الممكن أن يبطل التأمّل في العناصر الأرضيّة». من هنا، نَشَأَ، صرّح البابا، لسببٍ وجيه، لقب الشاعر الأسمى وتعريف الإلهيّة المنسوب إلى الكوميديا، وكذلك إعلان دانتي بأنّه «سيّدُ النشيد الأسمى»، في الكلمة الافتتاحيّة للرسالة الرسوليّة نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، في تقييمه لصفات دانتي الفنيّة والأدبيّة الاستثنائيّة، كرّر بولس السادس مبدأً أكّده مرّاتٍ عديدة: «للّاهوت والفلسفة علاقةٌ أُخرى بالجمال تتكوّن من هذا: أنّه عندما يُضفي الجمالُ على العقيدة لباسَه وزينَته، مع عذوبة الغناء ووضوح الفنّ التشكيليّ والتصويريّ للعيان، يفتح الطريقَ أمام توصيل تعاليمه الثمينة للكثيرين. الأبحاث المهمّة، والاستنتاجات الدقيقة لا يمكن أن يدركها المتواضعون، وهُم كثرة، هُم جائعون جدًّا لخبز الحقيقة: إنّما هؤلاء أيضًا يتحسّسون، ويشعرون ويقدرون تأثير الجمال، ومن خلال هذه الوسائل تَسْطَعُ لهم الحقيقةُ بسهولة أكبر وتُغَذّيهم. هذا ما فهمه وفعله سيّدُ النشيد الأسمى، حيث أصبح الجمال وَصِيفُ الطّيبة والحق، والطيبة موضوع الجمال». أخيرًا، مُستَشْهِدًا مِنَ الكوميديا، حثّ بولس السادس الجميع: «مجّدوا الشاعر الأعظم!» (الجحيم، 4، 80).
عن القديس يوحنا بولس الثاني، الذي تناول مرارًا وتكرارًا أعمال الشاعر الأسمى في خطاباته، أودُّ أن أذكر فقط مداخلة 30 مايو/أيار 1985 في افتتاح معرض دانتي في الفاتيكان. هو أيضًا، كما بولس السادس، شدّد على عبقريّته الفنيّة: يتمّ تفسيرُ عمل دانتي على أنّه «واقع مرأيّ، يتحدّث عن حياة ما بعد الموت وعن سر الله بقوّة الفكر اللاهوتيّ، الذي تجسّده روعة الفن والشعر، مُقتَرِنان ببعضهما البعض». ثمّ توقّف الحبر الأعظم ليستعرض مصطلحًا رئيسيًّا لعمل دانتي: «تخطّي حدود الطبيعة البشريّة. كان هذا هو الجهد الأكبر لدانتي: للتأكّد من أنّ ثِقَل الإنسان لا يدمّر الإلهيَّ الذي بداخلنا، ولا تلغي عظمةُ الإلهيّ قيمةَ الإنسان. لهذا السبب قرأ الشاعر قصّته الشخصيّة بالذّات وقصّة البشريّة جمعاء بأسلوبٍ لاهوتيّ».
غالبًا ما أعاد بنديكتُس السادس عشر اقتراح مسار دانتي، مستوحيًا من أعماله الإلهام للتفكير والتأمّل. على سبيل المثال، بحديثه في رسالته العامة الأولى Deus caritas est، بدأ تحديدًا من رؤية دانتي عن الله، حيث «النور والحبّ هما واحد» لإعادة اقتراح تأمّله حول ما هو جديد من عمل دانتي: «نظرة دانتي أبصرت شيئًا جديدًا تمامًا […]. إنَّ النور الأبديّ يظهَر في ثلاث دوائر يخاطبها بتلك العبارات القويّة التي نعرفها: "أيّها النور الأبدي السّاكن إلى ذاتِكَ وحدَها / الذي تُدرِكُ ذاتَكَ بِذاتِك / وبكَونِكَ مُدرِكًا من ذاتِكَ ومُدرِكًا إيّاها / فإنَّكَ تُحِب ذاتَكَ وتَبْتَسِم!" (الفردوس، 33، 124- 126). في الواقع، الأمر الذي يُذهِل أكثر من هذا الكشف عن الله كدائرة ثالوثية للمعرفة والحبّ، هو إدراك الوجه البشريّ - وجه يسوع المسيح - الذي يظهر لدانتي في الدائرة المركزيّة للنور. […] هذا الإله لهُ وجهٌ بشريّ - ويمكننا أن نُضيف – لهُ قلبٌ بشريّ»[7]. سلَّطَ البابا الضوء على أصالة رؤيّة دانتي التي مِن خِلالِها يتمّ إيصَال حداثة التجربة المسيحيّة بطريقةٍ شعريّة، المُنبَثِقَة عن سرّ التجسّد: «حداثة الحبّ الذي دفع الله أن يتّخذ وجهًا بشريًّا، بل أن يتّخذ لحمًا ودمًا، أي كامِلَ الانسان»[8].
من جهتي، في الرسالة العامّة الأولى، نور الإيمان[9]، أشرتُ إلى دانتي للتّعبير عن نور الإيمان، مُستَشهِدًا ببَيْتٍ من الفردوس، وُصِفَ فيه النور بأنّه «قَبَسْ / يمتدّ بنيرانه حتّى يصبح شُعلةً متوهّجة / ويشعّ فيَّ كنجمةٍ في السماء» (الفردوس، 24، 145- 147). في مناسبة مرور سبعمائة وخمسين عامًا على ولادة الشاعر، أردْتُ تكريم ذكراه برسالة، على أمل أن «يتمّ فهمُ شخصيّة أليغييري وعمله وتقديرهما مرّة أُخرى»؛ واقترحت قراءة الكوميديا كما لو أنّها «خطّ رحلةٍ عظيم، بَلْ كحجٍّ حقيقيّ، سواءَ شخصيٌّ وداخليّ، أمْ مشتركٌ، وكنسيّ، واجتماعيّ وتاريخيّ»؛ في الواقع، "إنّها تُمثّل نَمُوذَجًا لكلّ رحلة أصيلة تُدعى فيها البشريّة إلى ترك ما يعرّفُهُ دانتي بأنّه "البيدَر الصّغير الذي يُحيلُنا وُحُوشًا" (الفردوس، 22، 151) للوصول إلى حالة جديدة، تتميّز بالانسجام وبالسّلام وبالسّعادة»[10]. لذلك أشرتُ إلى شخصيّة الشّاعر الأسمى لمُعاصِرِينَا، واقترحته كَمَا «نبيّ رجاء، مُبشِّر بإمكانيّة الخلاص، والتحرّر، والتغيير العميق لكلّ رجل وامرأة، وللبشريّة جَمعَاء»[11].
أخيرًا، في 10 أكتوبر/تشرين الأوّل 2020، مُستقبِلاً وفد أبرشيّة رافينّا، في مناسبة افتتاح عام دانتي، والإعلان عن هذه الوثيقة، لاحظْتُ كيف أنّ عمل دانتي لا يزال بإمكانه إغناءَ عقولِ وقلوبِ الكثيرينَ اليَوم، وخاصّةً الشباب، الذين يقتربون من شِعْرِهِ «بطريقةٍ سهلةِ المنال لهم، يجدون حتمًا، من جهة، كلّ البُعد بين المؤلّف وعالمه؛ ومع ذلك، من جهة أُخرى، فإنّهم يشعرون بجاذبيته المدهشة»[12].
2. حياة دانتي أليغييري، نموذج للحالة الإنسانيّة
من خلال هذه الرسالة الرسوليّة، أودّ أنا أيضًا أن أقترب من حياة وعمل الشاعر اللامع من أجل إدراك تلك الجاذبية، وإظهار عصريّتها وديمومتها، وإدراك تلك العِبَر والتأمّلات التي لا تزال ضروريّة اليوم للبشريّة جمعاء، ليس فقط للمؤمنين. في الحقيقة، يُعتبر عمل دانتي جزءًا لا يتجزّأ من ثقافتنا، فهو يُعِيدُنَا إلى الجذور المسيحيّة لأوروبا والغرب، ويمثّل تُراث المُثُل والقِيَم التي تقترحها الكنيسة والمجتمع المدني حتى اليوم كقاعدة للتعايُش الإنساني، حيث يمكننا ويجب علينا جميعًا أن نعترف بأنّنا جميعًا إخوة. مِن دُونِ التوغّل في التاريخ الشخصيّ والسياسيّ والقضائيّ المعقّد لأليغييري، أودّ أن أذكر فقط بعض اللحظات والأحداث من حياته، والتي يبدو فيها قريبًا بشكلٍ غير اعتيادي من العديد من معاصرينا والتي تُعتَبر أساسيّة لفهم عمله.
إنّ رباطه الأوّل بمدينة فلورنسا، حيث ولد عام 1265 وتزوج من جيمّا دوناتي، مُنجِبًا منها أربعة أطفال، هو إحساس قوي بالانتماء، ولكن، بسبب الخلافات السياسيّة، تحوَّل مع مرور الوقت إلى تباين مفتوح. ومع ذلك، لم يفقد أبدًا الرغبة في العودة إلى هناك، ليس فقط من أجل المودّة تجاه مدينته التي استمر مع ذلك في تغذيتها، ولكن قبل كلّ شيء لِيُتَوَّجَ شاعرًا هناك حيث نال المعموديّة والإيمان (را. الفردوس، 25، 1- 9). في عناوين بعض رسائله (3، 5، 6، 7) يعرّف دانتي نفسه على أنّه «مواطن فلورانسي منفيّ على غير حقّ» (florentinusetexulinmeritus)، بينما في رسالته الثالثة عشر، الموجَّهَةَ إلى كانغراندي ديلّا سكالا، حدَّد «مواطن فلورانسي بالولادة لا بالأخلاق» (florentinusnationalenonmoribus). لكونه ينتمي إلى تيّار الغويلفيين من الطرف الأبيض، وَجَدَ نفسه متورطًا في الصّراع بين الغويلفيّين والغيبيليّين، بين الغويلفيّين البِيْضِ والسّوُدِ، وبعد أن شغل مناصب عامّة ذات أهمية كبيرة، حتّى أصبح رئيسًا للبلديّة، وبسبب الأحداث السياسيّة المعاكسة، في عام 1302، تمّ نفيه لمدّة عامين، ممنوع من الوظيفة العامة ومحكومٌ عليه بدفع غرامة. رَفَضَ دانتي الحُكم الذي في رأيه كان جائرًا، غير أنّ الحُكْمَ ضده اشتَدَّ قسوة: نفي دائم، ومصادرة أموال وإعدام في حال عودته إلى الوطن. هكذا بدأت قصّة دانتي المؤلمة، الذي حاول عبثًا أن يتمكن من العودة إلى محبوبتهِ فلورنسا، والتي قاتل من أجلها بشغف.
وهكذا أصبح المنفيّ، "الحاجّ المهموم"، الذي وقع في حالة من «الفقر المؤلم» (كونفيفو، 1، 3، 5)، والذي دفعه إلى البحث عن ملجأ وحماية لدى بعض اللّوردات المحلّيّين، من بينهم ديلّا سكالا في فيرونا ومالاسبِنا في لونيجَيانا. على حدّ تعبير كاتشاغويدا، سَلَف الشاعر، يمكنّنا أن نشعر بمرارة ويأس هذا الوضع الجديد: «وستتخلّى عن كلّ ما أنت به / جدُّ شغوفٍ؛ وهذا هو أوّل ما يسدّده / إليك قوس المنفى من سهامٍ. / وسوف تختبر كيف يكون خبز الغير / أملَحَ الطَعم، وكيف يكون الصعود والهبوط على سلالم الآخرين / دربًا وعرًا» (الفردوس، 17، 55-60).
عند رفضه، بعدئذٍ، الشروط المهينة للعفو الذي كان سيسمح له بالعودة إلى فلورنسا، في العام 1315 حُكم عليه بالإعدام مرّة أخرى، هذه المرة مع أطفاله المراهقين. المرحلة الأخيرة من نفيه كانت في رافينّا، حيث رحّب به جويدو نوفيلّو من بولينتا، وحيث توفّي، عائداً من مهمّة في البندقيّة، عن عُمرٍ يُناهزُ 56 عامًا، في ليلة 13 و14 سبتمبر/أيلول 1321. تمّ دَفْنُهُ في فُلكٍ عند كنيسة القدّيس بطرس الكبير، بالقرب من الجدار الخارجي للرِّوَاق الفرنسيسكانيّ القديم، وتمّ نقله بعد ذلك إلى المعبد المجاور الذي يعود إلى القرن السابع عشر، حيث تمّ وضع رفاته في عام 1865، بعد أحداثٍ مضطربة. هذا المكان لا يزال حتى اليوم وجهة لعدد لا يحصى من الزوّار والمعجبين بالشاعر الأسمى، والد اللغة والأدب الإيطالي.
في المنفى، تحوّل حبُّ مدينته، الذي خانه «بعض الفلورنسيون ذات السمعة السيئة» (الرسالة 6، 1)، إلى حَنِينٍ حَزِين. إنّ خيبةَ الأمل العميقة لسقوط مُثُلِهِ السياسيّة والمدنيّة، إلى جانب التجوّل المؤلم من مدينة إلى أخرى بحثًا عن ملجأ ودعم، لا تنفصل عن عمله الأدبي والشعري، بل على العكس، فهي تشكّل الجذور الأساسيّة والدافع الكامن وراءها. عندما يصف دانتي الحُجّاج الذين ينطلقون لزيارة الأماكن المقدّسة، فإنّه يَعرض بطريقة ما حالته الوجوديّة ويعبّر عن مشاعره الأكثر حميميّة: «أوّاه، أيّها الحجيج، أيّها الذين تمضُون مهمومِين...» (فيتا نُوُوفا، 40، 1). الفكرة تعود مرّاتٍ عِدَّة، كما هو الحال في البيت من المطهر: «وكما يفعل الحُجَّاج المتفكّرون / حينما يبلغون في طريقهم قومًا غير معروفين لديهم / فيلتفتون إليهم بلا توقّف» (23، 16-18). يمكِنُ إدراك كآبة دانتي الحاجّ والمنفيّ المؤلمة، أيضًا في الأبيات الشهيرة من الأنشودة الثامنة من المطهر: «كانت قَد حلّت الساعة التي تبعث الحنين / لدى روّاد البحار وتُليِن قلوبهم / يومَ أَنْ قالوا وداعًا لأصدقائهم الأعزاء» (8، 1-3).
دانتي، مُفكّرًا بعمق بحالته الشخصيّة في المنفى، بالحَيرَةِ الجذريّة وبالهشاشة وبالتنقّل المستمر، حوَّلهَا، رافعًا إيّاها، إلى نموذج للحالة الإنسانيّة، والتي تقدّم نَفْسَها كسبيلٍ، داخليّ قبل أن يكون خارجيّ، والتي لا تتوقّف أبدًا حتّى تصل إلى الهدف. وهكذا، فإنّنا نواجه موضوعَين أساسيَّين في كلّ أعمال دانتي: نقطة البداية لكلّ مسارٍ وجوديّ، الرغبة، المتأصّلة في الرّوح البشريّة، ونقطة الوصول، السّعادة، المُعْطَاة مِن رُؤْيَةِ الحبّ والتي هي الله.
الشّاعر الأسمى، على الرّغمِ من عَيْشِهِ لأحداثٍ مأساويّة، حزينة ومؤلمة، لم يرضخ أبدًا، ولم يستسلم، ولم يقبل أن يَقتُلَ التَّوق إلى الامتلاء والسعادة الكامنَيْنِ في قلبه، ولا أن يَخْضَعَ للظّلم، والنّفاق، وغَطْرَسَةِ السُّلْطَة، والأنانيّة التي تجعل عالمنا «البيدَر الصّغير الذي يُحيلُنا وُحُوشًا» (الفردوس، 22، 151).
3. رسالة الشّاعر، نبيّ الرجاء
دانتي، إذًا، بإعادة قراءة حياته قبل كلّ شيء على ضوء الإيمان، اكتشف أيضًا الدّعوة والرّسالة الموكلة إليه، والتي، من المفارقة أنّه، من رجلٍ فاشلٍ وخائبٍ وخاطئٍ ومحبطٍ ظاهريًّا، تحوّل إلى نبيٍّ للرجاء. في رسالتِهِ إلى كانغراندي ديلّا سكالا، يشرح بوضوح استثنائي، الغاية من عمله، الذي تنفيذه والتعبير عنه لم يعد من خلال الأعمال السياسيّة أو العسكريّة، ولكن بفضل الشّعر، وفنّ الكلمة التي إذا وُجِّهَت للجميع، يمكنها أن تُغيّر الجميع: «يجب أن يُقال بإيجاز أن الغرض من الكُلّ والجُزء هو إخراجُ الأحياءِ في هذهِ الحياة مِن حالةِ البُؤس وقيادتهم إلى حالة السّعادة (13، 39 [15]). هذه الغاية تُحرّك مسارًا للتحرّر من كلّ أشكال البؤس والتدهور البشري ("الغابة المظلمة") وفي الوقت نفسهِ تُشيرُ إلى الهدف النهائيّ: السّعادة، التي تُفهَم على أنّها مِلْءُ الحياة في التاريخ والنّعيمُ الأبديّ في الله.
لهذه الغاية المزدوجة، من ولهذا البرنامج الجريء للحياة، يُعتَبَر دانتي رسول، نبي وشاهد، أكّدته بياتريتشه في رسالته: «ولذلك فلتُركِّز عينيك على العربة الآن، / حرصًا على صالح العالم الذي يحيا حياة الشرّ، ولتعمل على تدوين ما تراه / حين تعود إلى ذلك الجانب» (المطهر، 32، 103- 105). كما حثّه سلفه كاتشاغويدا على عدم الفشل في رسالته. على الشّاعر، الذي يتذكّر باختصار رحلته في ممالك الآخرة الثلاث، والذي يشير إلى صعوبة إيصال تلك الحقائق المؤلمة، وغير المريحة، يردّ السّلف اللامع: «إنّ الضّمير الملطّخ / بذات عاره أو بعار الآخرين، سيشعر حقًّا بوخز كلماتك. / ولكن على الرّغم من ذلك / فلتطرح عنك جانبًا كلّ أكذوبة / وَلتُفصح عن كلّ ما ترى؛ / وَلتدعهم أينما أحسّوا يحكّون أكالهم» (الفردوس، 17، 124- 129). تحريض مُماثِل على عيش رسالته النبويّة بشجاعة موجّهٌ إلى دانتي في الفردوس من قِبَل القدّيس بطرس، حيثُ يخاطبُ الرّسول الشّاعر، بعدَ هجاءٍ رهيبٍ ضدّ بونيفاس الثامن، بهذه الطريقة: «وأنت يا بنيَّ، يا من ستعود من بعد / بثقلك الفاني إلى أسفل، افتح فاك / ولا تُخفِ ما لستُ أُخفِيه» (27، 64- 66).
في رسالة دانتي النبويّة يُدْرَجُ هكذا، أيضًا، الاستنكار والانتقاد تُجاه المؤمنين، الباباوات مِنهُم أو المؤمنين البُسطاء، الذين يخونون انتماءهم للمسيح ويحوّلون الكنيسة إلى أداة لمصلحتهم الخاصّة، مُتناسِين روح التطويبات والإحسان تجاه الصّغار والفقراء، ومُألّهينَ السُّلطة والمال: «إذْ أنّ كلّ ما تحفظه الكنيسة / ينتمي برمّته للقوم الذين يسألون باسم الله؛ / لا لأقربائهم ولا لِمَنْ هم أسوأ منهم حالاً» (الفردوس، 22، 82- 84). ولكن من خلال كلمات القدّيس بيير دامياني، والقدّيس بنديكتُس والقدّيس بطرس، فإنّ الشّاعر، بينما يستنكر فساد بعض قطاعات الكنيسة، يُصبحُ المتحدّث باسم التجديد العميق ويدعو العناية الإلهيّة إلى تسهيله وجعله ممكنًا: «ولكن العناية السامية التي حَفِظَت هي وشيبيوني / مجدَ الدنيا لروما، / ستهبّ لمعونتنا سريعًا، كما أتبيّن» (الفردوس، 27، 61- 63).
دانتي المنفيّ، والحاجّ والهشّ، لكنّه الآن قويّ في التجربة العميقة والحميمة التي غيّرته، وُلِدَ مِن جَدِيد بفَضْلِ الرّؤية التي رَفعتهُ مِن أعماقِ العالم السّفلي، مِن أكثرِ الظُّروف الإنسانيّة تدهورًا، إلى رؤية الله ذاتِها، لذلك يَنْتَصِبُ كرسولٍ لوجودٍ جديد، كَنَبِّيٍ لإنسانيّةٍ جديدة تتوق إلى السّلام والسّعادة.
4. دانتي مُرنّم الرغبة الإنسانيّة
يَعرِفُ دانتي كيف يقرأ قلب الإنسان بعمق وفي كلّ شخص، حتّى في أكثر الشخصيّات دناءةً وإزعاجًا، يمكنه أن يلْمَحَ شرارة الرغبة في الوصول إلى بعض السّعادة، إلى امتلاء الحياة. هو يتوقّف للإصغاء إلى النفوس التي يلتقي بها، ويتحدث معهم، ويسألهم حتى يتعاطف معهم ويُشاركهم في عذاباتهم أو غبطتهم. وهكذا يصبح الشّاعر، انطلاقاً من حالته الشخصيّة، مفسّرًا لرغبة كلّ إنسانٍ في مواصلة المَسِيرِ حتّى الوصول إلى الغاية النهائيّة، وإيجاد الحقيقة، والجواب على أسباب الوجود، رَيْثَما، كما سبق وأكّد القديس أغسطينُس[13]، يجد القلب الراحة والسّلام في الله.
في الكونفيفيو يحلّل بدقّة ديناميكيّة الرغبة: «الرغبة الأسمى لكلّ شيء، والمُعطاةُ بِدَايَةً من الطبيعة، هي العودة إلى مبدئها. وبما أنّ الله هو مبدَأُ نفوسنا، […] فإنّ النَّفسَ تَرْغَبُ قبل كلّ شيء في العودة إلى ذلك. وكحَاجٍّ يسير في طريق لم يَقْطَعْها أبدًا مِن قَبْل، وأنّ كلّ بيتٍ يَرَاهُ مِن بَعِيدٍ يَعتَقِدُ أنَّه فُندُق، وعندما لا يجده هكذا، يوجّه تَفكِيرهُ إلى المُقْبِل، وهكذا من بيت إلى بيت، إلى أن يأتي إلى الفندق؛ وهكذا نَفْسُنَا، بمُجرَّد دُخُولِهَا في الطّريق الجديد والذي لَم تَقْطَعْه قَبل لهذه الحياة، توجّه أَعْيُنَهَا إلى غَايَةِ خَيرِهَا الأسمى، وبالتّالي، فإنَّ كلّ ما تراه والذي يبدو أنّه يحتوي على بعض الخير في ذاتِهِ، تعتقد أنّه هو الخير» (4، 12، 14- 15).
إنّ مسار رحلة دانتي، لا سيما تلك المُوضحة في الكوميديا الإلهيّة، هي حقًّا الطريق إلى الرغبة، والحاجة العميقة والداخليّة لتغيير الحياة من أجل الوصول إلى السّعادة وبالتّالي إظهار الطّريق للذين يجدون أنفسهم، مثلَهُ، في "الغابة المظلمة" وفَقَدَوا "الطّريق الصّحيح". يبدو ذُو أهميّة أيضًا أنّه، مُنْذُ المرحلةِ الأُولى من هذه الرّحلة، يُشيرُ مُرشِده، الشّاعر الّلاتينيّ الكبير فيرجيل، إلى الهدف الذي يجب أن يصل إليه، حاثًّا إيّاهُ على عدم الاستسلام للخوف والتعب: «ولكن لِمَ تعود إلى مثل هذا الضّيق؟ / ولماذا لا ترتقي الجبلَ السعيد، / الذي هو لكلّ سعادةٍ مبدأٌ ومنبع؟» (الجحيم، 1، 76- 78).
5. شَاعِرُ رَحْمَةِ الله والحريّة الإنسانيّة
إنّها مسيرة ليست وهميّة أو خياليّة ولكنّها واقعيّة وممكنة، حيثُ يمكن للجميع الاندماج فيها، لأنّ رحمة الله توفّر دائمًا إمكانيّة التغيير، والتحوّل، والعثور على الذّات والعثور على الطريق نَحْوَ السعادة. ومن الجدير بالذّكر في هذا الصّدد، بعض وَقائِع وشخصيّات الكوميديا، والتي تُظهر أنّه لا يُوجَدُ أحدٌ على وَجهِ الأرض مُستَبعَدٌ مِن هذا الطريق. إِلَيْكَ، على سبيل المثال، الإمبراطور تراجان، وثنيّ ولكنّه موجود في الجنّة. يبرّر دانتي هذا الوجود بهذه الطريقة: «يكابد ملكوت السماوات / من العنف الذي تولّده المحبّة المتأجّجة والرجاء الحيّ، / اللذان يظفران بإرادة الله، / ولكن ليس كظفر رجل بآخر، / بل يظفران بها لأنّها راغبة أن يُظفر بها؛ / وحينما تُغلَب تكون بلطفها هي الغالبة» (الفردوس، 2، 94- 99). لَفْتَةُ تراجان الخيريّة تجاه «أرملة» (45)، أو «دمعة» التوبة التي انسكبت في لحظة موت بونكونتي دا مونتيفلترو (المطهر، 5، 107) لا تُظهِرَان فقط رحمة الله اللامتناهية، ولكنّهما تؤكّدان أنّ الإنسان يمكنه دائمًا أن يختار، بحرّيّته، أيُّ طريقٍ يتبع وأيُّ مَصِيرٍ يستحق.
على ضوء هذا، مُهِمٌّ هو الملك مانفريدي، الذي وضعه دانتي في المطهر، والذي يتذكّر نهايته والحكم الإلهيّ هكذا: «فإنّه بعد أن تلقّى جسدي طعنتَين قاتلتَين، استسلمتُ باكيًا إلى مَنْ يغفر الذنوب عن طيب خاطر. لقد كانت آثامي رهيبة؛ ولكن الخير اللانهائي ذو أذرعٍ رحيبة تتقبّل كلّ من يتّجه إليها» (المطهر، 3، 118- 123). يكاد المرء يلمَحُ صورة الأب في المثل الإنجيليّ، وذراعاه ممدودتان استعدادًا للترحيب بالابن الضال الذي يعود إليه (را. لو 15، 11- 32).
دانتي جعل من نفسه مدافعًا عن كرامة كلّ إنسان وعن الحريّة كشرطٍ أساسيّ لخيارات الحياة والإيمان نفسه. يعتمد المصير الأبدي للإنسان - يقترح دانتي ويحدثنا بقصص العديد من الشخصيات، اللامعة أو غير المعروفة - على اختياراتهم وعلى حرّيّتهم: حتّى الأعمال اليوميّة والتي قد تبدو غير مهمّة لها أثر يتجاوز الزمن، ويبلغ البعد الأبدي. أعظمُ هبةٍ من الله للإنسان حتّى يتمكّن من الوصول إلى الهدف النهائي هي الحريّة، كما تؤكّد بياتريتشه: «إنّ أعظم هبة خلقها الله بأريحيّته / وأكثرها توافقًا مع خيره / والتي هي لديه أشدّها إعزازًا / كانت هي حريّة الإرادة» (الفردوس، 5، 19-22). إنّها ليست تصريحات بلاغيّة وغامضة، لأنّها تنشأ من خبرة حياة الذين يعرفون قِيمة الحريّة: «إنّه يسير في طلب الحريّة، التي هي عزيزةٌ غاليةٌ، / كما يعرف ذلك من يبذل في سبيلها حياته» (المطهر، 1، 71- 72).
لكن الحريّة، كما يذكّرنا أليغييري، ليست غاية في حدّ ذاتها، بل هي شرطٌ للصّعود المستمر، والمسار في الممالك الثلاث يصوّر لنا هذا الصعود حتى لمس السماء، حتى بلوغ السعادة الكاملة. «الرغبة العليا» (الفردوس، 22، 61)، التي تثيرها الحريّة، لا يمكن إخمادها إلّا في مواجهة الهدف، في الرؤية النهائيّة والنعيم: «وأنا الذي كنت أقترب من غاية الغايات، / كما كان ينبغي لي، / بلغ شوقي المتّقد غايته القصوى» (الفردوس، 33، 46- 48). تصبح الرغبة إذن أيضًا صلاةً، وتضرعًا، وشفاعةً، وترنيمةً ترافق وتميّز مسار رحلة دانتي، تمامًا كما تحدّد الصّلاة الليتورجيّة ساعات النهار ولحظاته. إنّ الترجمة التفسيريّة لصلاة الأبانا التي يقترحها الشّاعر (را. المطهر، 11، 1- 21) تَشْبِكُ النصَّ الإنجيليّ مع الخبرة الشخصيّة، مع صعوباتها ومعاناتها: «وَلْينزل علينا سلام ملكوتك؛ / وإن لم يأتنا فلا سبيل لنا لبلوغه بأنفسنا [...] أعطنا اليوم خبزنا كفافًا، / إذْ بدونه يعود القهقري مَنْ يمعن في إجهاد نفسه / كي يتقدم في هذه البيداء القفر» (7- 8. 13- 15). إنّ حريّة الذين يؤمنون بالله، والذي هو الآب الرحيم، لا يمكنها إلّا أن تعتمد عليه في الصّلاة، وبها لا تتأذّى على الإطلاق، بل بالأحرى تتقوّى.
6. صورة الإنسان في رؤية الله
في مسار الكوميديا، كما أكّد البابا بنديكتُس السادس عشر، إنّ طريق الحريّة والرغبة لا يجلب معه، كما قد يتخيّل المرْءُ، اختزالًا للإنسان في جوهره، ولا يُنْفِرُ الشخص مِن نفسِهِ، ولا يُلغي أو يتجاهل ما كان يشكّل وجوده التاريخيّ. حتّى في الفردوس، في الواقع، يعرض دانتي الطوباويين - «الثياب البِيْض» (30، 129) - وفي هيئتهم الجسديّة، يستحضر مشاعرهم وعواطفهم، نظراتهم وأعمالهم، إنّه يُبيّنُ لنا، باختصار، الإنسانيّة في كمالها بالرّوح والجسد معطيًا صورة مسبقة عن قيامة الجسد. يُظهر القديس برنارد، الذي رافق دانتي في آخر جزء من الطريق، للشّاعر الأطفال الحاضرين في وردة الطوباويين ويدعوه إلى مراقبتهم والاستماع إليهم: «ويمكنك أن تتبيّن هذا جيدًا على وجوههم، / وكذلك في أصوات طفولتهم، / إذا ما أصغيتَ وأحسنت النظر إليهم» (32، 46- 48). يبدو مؤثّرًا كيف أنّ إظهار الطوباويّين لذاتهم في إنسانيّتهم المتكاملة المشعّة ليس مدفوعًا فقط بمشاعر المودّة للأحبّاء، ولكن قبل كلّ شيء بالرغبة الصريحة في رؤية أجسادهم مرة أخرى، هيئتهم الأرضيّة: «ممّا أفصح لي جليًّا عن شوقهم إلى أجسادهم الفانية؛ / وربما لم يكن ذلك لذواتهم فحسب، / بل لأمهاتهم وآبائهم وسائر مَنْ كانوا أعزّاء لديهم، / من قبل أن يصبحوا شعلاتٍ أبديّة» (14، 63- 66).
وأخيرًا، في قلب الرؤية النهائيّة، في اللقاء مع سرّ الثّالوث الأقدس، يرى دانتي وجهًا بشريًّا، وجه المسيح، الكلمة الأبديّة، الذي تجسّد في أحشاء مريم: «وفي الجوهر العميق الصافي من النور العظيم، / ظهرتْ لي ثلاث حلقات / مثلّثة الألوان، وذات محيط واحد […] وتلك الدائرة التي ارتسمت على ذلك النحو، / وتبدّت فيك كأنها نورٌ منعكسٌ، / حين تأملتها بعينيّ قليلًا، / ظهرت لي في باطنها، وبذات لونها، / أنّها على مثال صورتنا البشريّة المرسومة» (33، 115- 117. 127- 131). فقط في رؤية الله يتمّ إرضاء رغبة الإنسان وتنتهي كلّ رحلته المتعبة: «لولا أن أصاب عقلي وميضٌ / فاكتملت رغبته من خلال بهائِها. / وهنا أعوز خيالي الرفيع قُدورَه» (140- 142).
إنّ سرّ التجسّد، الذي نحتفل به اليوم، هو مركز الإلهام الحقيقيّ والجوهر الأساسيّ للقصيدة بأكملها. فيه يتحقّق، ما أسماه آباء الكنيسة "تأليه"، التبادل الرائع، التبادل المُعجِز الذي بموجبه يدخل الله تاريخنا بالتجسّد، ويمكن للإنسان، بجسده، أن يدخل الواقع الإلهي، المرمُوز إليه بوردة الطوباويّين. الإنسانيّة في جوهرها، وأعمالها والكلمات اليوميّة، بذكائها ومشاعرها، بالجسد والعواطف، قد عانقها الله، الذي فِيهِ تجد السعادة الحقيقيّة والتحقيق الكامل والنهائي، غايةُ رحلتها بأكملها. كان دانتي قد رغب في تحقيق هذا الهدف وتوقّعه في بداية الفردوس: «فلم يكن هناك بدٌّ من أن يشتد أوار رغبتي، / لكي أنظر إلى ذلك الجوهر الذي يُرى فيه / كيف اتحدت طبيعتنا بالله. / وهناك سنرى ما نحن بالعقيدة ندركه، / وهو ما لا يبدو في الظاهر، / بل ندركه في ذاته كما تُدرك الحقائق الأولى التي يؤمن بها الإنسان» (2، 40- 45).
7. النساء الثلاثة في الكوميديا: ماريّا، بياتريتشه، لوتشيّا
مُنْشِدًا سرّ التجسّد، مصدر الخلاص والفرح للبشريّة جمعاء، لا يسع دانتي إلّا أن يُرنِّمَ مديح مريم، الأمّ العذراء التي، بقولها "نعم"، بقبولها الكامل والكلّي لمشروع الله، جعلت ممكنًا أن يصير الكلمة جسدًا. نجد في عمل دانتي طرحًا جميلًا عن اللاهوت المريمي: بنبرات غنائيّة، وبشكلٍ خاصّ في الصّلاة التي ألقاها القديس برنارد، إذ يلخّص كلّ التأمّلات اللاهوتيّة حول مريم وحول مشاركتها في سرّ الله: «أيتها الأم العذراء، يا ابنة ابنك، / يا من تفوقين سائر الخلق اتضاعًا وسموًّا، / أيتها الغاية الأبدية المرسومة لنا، / إنّك أنت التي أفضت بنُبلك على طبيعة البشر، / حتّى لم يأنف خالقك من أن تكوني له خالقةً» (الفردوس، 33، 1- 6). إنَّ التناقض الظّاهري وتعاقُب المصطلحات المتعارِضَة يُبْرِزَانِ أصالة شخصيّة مريم، وجمالها الفريد.
يدعو القدّيس برنارد دانتي دائمًا، إذ يُظهِر الطّوباويّين المتواجدين في الوردة السرّيّة، إلى التأمّل في مريم، التي أعطت هيئةً بشريّةً للكلمة المتجسّد: «فلتتأمّل الآن أكثر الوجوه شبهًا بالمسيح، إذْ أنّ بهاءَها وحده هو الذي يمكنه أن يؤهلك لرؤية المسيح" (الفردوس، 32، 85- 87). يُسْتَذْكَرُ سِرُّ التجسّد مرّةً أُخرى من خلال حضور رئيس الملائكة جبرائيل. يسأل دانتي القدّيس برنارد: «مَنْ ذلك الملاك الذي ينظر بمثل هذه البهجة / إلى عيني مليكتنا. / وقد تدلَّه في حبها، حتى ليبدو جذوة نار؟» (103- 105) وذاك يُجيبُ: «إذْ أنّه هو الذي حمل سعف النخل / إلى ماريا في أسفل، حينما أراد ابن الله / أن يحمل ثقل ما لنا من الجسد.» (112- 114). الإشارة إلى مريم تتردّد في كلّ الكوميديا الإلهيّة. على طول الطريق في المطهر، هي نموذج للفضائل التي تتعارض مع الرذائل؛ إنّها نجمة الصّباح التي تساعد على الخروج من الغابة المظلمة للسير نحو جبل الله؛ إنّها الحضور المستمر، من خلال دعوتها - «باسم الزهرة الجميلة، التي أبتهل دومًا إليها / ليلاً ونهاراً» (الفردوس، 23، 88- 89) - والتي تُهيّئُ إلى اللّقاء مع المسيح ومع سِرِّ الله.
دانتي، الذي لم يكن وحيدًا أبدًا في مسيرته، ولكن يسمح بأن يسترشد أوّلاً بفيرجيل، رمز العقل البشري، ثمّ بياتريتشه والقدّيس برنارد، يستطيع الآن، وبفضل شفاعة ماريّا، الوصول إلى وطنه والتمتّع بالفرح الكلّيّ المُشتَهَى في كلِّ لحظةٍ من الوجود: «إذْ كادت تخونني رؤيتي تمامًا / وإن كانت لا تزال تقطر في قلبي تلك البهجة التي نبعتْ منها» (الفردوس، 33، 62- 63). لا يمكن إنقاذُ أنفسنا بمفردنا، يبدو أنّ الشّاعر يكرّره لنا، مدركًا: «أنا لا أجيء من تلقاء نفسي» (الجحيم، 10، 61)؛ من الضروريّ أن تتمّ المسيرة بصحبة الذين يمكنهم دعمنا وإرشادنا بحكمة وحصافة.
يبدو أنّ الحُضُور الأنثويّ مهمٌّ في هذا السياق. في بداية المسيرة المُتعِبَة، يعزّي فيرجيل، المرشد الأوّل، دانتي ويشجّعه على المواصلة لأنّ ثلاث نساء يتشفّعْنَ من أجله وسيرشِدْنَه: مريم، والدة الإله، رمز المحبة؛ بياتريتشه رمز الرجاء؛ والقديسة لوتشيا، صورة الإيمان. هكذا، مع الكلمات المؤثّرة، تقدّم بياتريتشه نفسها: «أنا بياتريتشه، التي أبعثك إليه، إني آتيةٌ من مكان أرغب في العودة إليه؛ لقد حرّكني الحبّ الذي يجعلني أتكلّم» (الجحيم، 2، 70- 72)، مؤكِّدةً أنّ المصدر الوحيد الذي يمكن أن يمنحنا الخلاص هو الحبّ، الحبّ الإلهيّ الذي يُحوِّل الحبّ البشريّ. ثمّ تُشير بياتريتشه إلى شفاعة امرأة أخرى، مريم العذراء: «وفي السماء سيدةٌ رقيقةٌ تتألّم / لهذه العقبة، التي أبعثك من أجلها، / وبذلك خرجتْ على الحكم الدقيق هناك في العلياء.» (94- 96). ثمّ تدخّلت لوتشيا، والتي توجّهت إلى بياتريتشه: «بياتريتشه، يا مجد لله الحّق، / لما لا تُسعفين ذلك الذي أحبّك كثيرًا، / حتّى خرج في سبيلك من غمار الناس؟» (103- 105). يُقرُّ دانتي أنّ الذين تأثّروا بالحبّ هم فقط من يمكنهم دعمنا حقًّا في المسيرة وقيادتنا إلى الخلاص، وإلى تجديد الحياة وبالتالي إلى السعادة.
8. فرنسيس، عريس سيّدة الفقر
في وردة الطوباويّين النقيّة، التي تتألّق في وسطها صورة مريم، يضع دانتي أيضًا العديد من القديسين، الذين يخطّ حياتهم ورسالتهم، ليقترحهم كشخصيّات، والذين، في جوهر وجودهم وأيضًا من خلال العديد من الاختبارات، بلغوا الغاية من حياتهم ومن دعوتهم. سأشير بإيجاز فقط إلى شخصيّة القدّيس فرنسيس الأسّيزي، الموضّحة في الأنشودة 11 من الفردوس، حيث يتحدّث عن الأرواح الحكيمة.
هناك انسجام عميق بين القدّيس فرنسيس ودانتي: الأوّل، مع أتباعه، غَادَرَ الدير، وذَهَبَ بين الناس، عَبْرَ شوارع القُرى والمدُن، واعظًا الشعب، ومارًّا في البيوت؛ والثاني اختار أن يستخدم في القصيدة الكبيرة حول الآخرة اللغة العامّة، - وهذا الخيار لم يُفهم في ذلك الوقت -، وملأ قصّته بشخصيّات مشهورة وأقل شُهرة، ولكنها متساويةً تمامًا في الكرامة مع أقوياء الأرض. وهناك سِمَةٌ أُخرى توحّد الشخصيّتين: الانفتاح على جمال وقيمة العالم المخلوق، الذي هو مرآة و "أثر" خالقه. كيف يمكننا ألّا ندرك أنّ «فليقدِّس كلّ الورى اسمك وجبروتك» في ترجمة دانتي التفسيريّة لصلاة الأبانا (المطهر، 11، 4- 5) إشارة إلى نشيد المخلوقات للقدّيس فرنسيس؟
في الأنشودة 11 من الفردوس، يظْهرُ هذا الانسجام في جانب جديد، ممَّا يجعلهما أكثر تشابهًا. تَبرُز قداسةُ وحكمةُ فرنسيس على وجه التحديد لأنّ دانتي، وهو ينظر إلى أرضنا من السماء، يرى مدى محدوديّة الذين يثقون في الخيرات الأرضيّة: «أيّها العناية البلهاء للبشريّة الفانية، / كم هي باطلةٌ تلك المجادلات / التي تهبط بخفقات أجنحتكم إلى أسفل» (1- 3). تتمحور القصة بأكملها، أو بالأحرى، «الحياة الرائعة» للقدّيس في علاقته المتميّزة مع سيّدة الفقر: «ولكن لكيلا أمضي متكلمًا في غموض شديد، / فلتعلم الآن أنّه في حديثي المستفيض / كان الفقر وفرنسيس هما هذان العاشقان» (73- 75). في ترنيمة القدّيس فرنسيس يُشارُ إلى الّلحظات البارزة في حياته، ومِحَنِه، وأخيرًا الحدث الذي يجد فيه تشابهُهُ مع المسيح، الفقير والمصلوب، تأكيدًا إلهيًا عظيمًا في علامات الجِرَاح: «وإذ وجد القوم غير مستعدّين لاعتناق دينه، / وحتى لا يبقى بغير طائل / آب لكي يجني من حصاد إيطاليا أثماره. / وعلى الصخرة الوعرة الكائنة بين نهرَى التيبر والأرنو، / تلقى من المسيح آخر علاماته، / التي حملته مدة عامين أعضاؤه» (103- 108).
9. تَلَقِّي شهادة دانتي أليغييري
في نهاية هذه النّظرة البسيطة على عمل دانتي أليغييري، وهو منجمٌ لا حصْر له من المعرفة، والخبرة، والاعتبارات في كلِّ مجالٍ من مجالات البحث البشريّ، فإنّ التفكير مطلوبٌ مِنَّا. إنّ غِنَى الشخصيات، والروايات، والرموز، والصور المُوحية والجذّابة التي يقدمها لنا دانتي تُثير الإعجاب والدهشة والامتنان بالتأكيد. يمكننا تقريبًا أن نلمح فيه رائدًا لثقافتنا المتعدّدة الوسائل، حيث تختلط الكلمات والصور، والرموز والأصوات، والشعر والرقص في رسالةٍ واحدة. يمكننا أن نُدرِك بالتالي لماذا أَلهمتْ قصيدته إنشاءَ أعمالٍ فنيّة لا حصْرَ لها من جميع الأنواع.
لكن، عمل الشاعر الأسمى يثير أيضًا بعض التحدّي في أيّامنا هذه. ما الذي يمكن أن يَنقله إلينا في عصرنا؟ هل لديه شيء آخر ليقوله لنا، وليقدّمه لنا؟ هل تحوي رسالته مواضيع راهنة، أو تنقل لنا اليوم أيضًا مضمونًا مهمًّا؟ هل لا يزال بإمكانها مُسائَلَتُنا؟
دانتي - لنحاول أن نكون مترجمين لصوته - لا يطلب منّا، اليوم، أن يتمّ ببساطة قراءته، والتعليق عليه، ودراسته، وتحليله. بدلاً من ذلك، يطلب منّا أن يتمّ الاستماع إليه، وأن يتمّ تقليده بطريقة ما، أن يجعلنا رفقاء سفره، لأنه حتّى اليوم، هو يريد أن يبيّنّ لنا الطريق إلى السعادة، والسبيل الصّحيح لعيش إنسانيّتنا بشكل كامل، متغلّبًا على الغابات المظلمة التي نفقد فيها الاتّجاه والكرامة. رحلة دانتي ورؤيته للحياة ما بعد الموت ليست مجرّد موضوع سَرْد، لا يُشكِّلان مجرد حدث شخصي، وإن كان حدثًا استثنائيًا.
إذا قال دانتي كلّ هذا - وقد فعل ذلك بطريقة رائعة - مُستَخْدِمًا لغة الناس، اللغة التي يمكن للجميع فهمها، والارتقاء بها إلى لغة عالميّة، فذلك لأنّه لديه رسالة مهمّة ينقلها إلينا، كلمة تريد أن تمسّ قلوبنا وعقولنا، مكرّسة من الآن لتحويلنا وتغييرنا، في هذه الحياة. رسالته يمكنها ويجب أن تجعلنا ندرك تمامًا ما نحن عليه وما نعيشه يومًا بعد يوم في التوتّر الداخليّ والمستمر نحو السعادة، نحو مِلءِ الوجود، نحو الوطن النهائي حيث سنكون في شركة تامّة مع الله، الحبّ الأبديّ اللّامُتناهي. حتّى لو كان دانتي ينتمي إلى عصره ولديه حساسيّات مختلفة عنّا في بعض القضايا، فإنّ نزعته الإنسانيّة لا تزال صالحة وحديثة ويمكن بالتأكيد أن تكون مرجعيّة لما نريد أن نبنيه في عصرنا.
لذلك من المهمّ أن يتمّ التعرِيف بعمل دانتي، مستغلّين مناسبة الذكرى المئويّة، بشكل أكثر ملاءمة، أيْ جعله متوفرًا وجذّابًا ليس فقط للطلّاب والباحثين، ولكن أيضًا لجميع الذين يتوقون للإجابة على الأسئلة الداخليّة، ويرغبون في تحقيق وجودهم بالملء، يريدون أن يعيشوا مسيرتهم الخاصّة في الحياة والإيمان بطريقة واعية، ويرحبون ويعيشون بامتنان عطيّة الحريّة والالتزام بها.
لذلك، أهنّئ المعلّمين القادرين على إيصال رسالة دانتي بشغف، وتقديم الكنز الثقافيّ، والدينيّ والأخلاقيّ الموجود في أعماله. ومع ذلك، يجب توفير هذا التّراث خارج الفصول الدراسيّة والجامعيّة.
أَحُثُّ المجتمعات المسيحيّة، وخاصّة تلك الموجودة في المدن التي تحافظ على ذكريات دانتي، والمؤسّسات الأكاديميّة، والجمعيّات والحركات الثقافيّة، على تعزيز المبادرات التي تهدف إلى التعرُّف على رسالة دانتي ونشرها بالكامل.
ثمّ، وبطريقة خاصّة، أشجّع الفنّانين على إعطاء صوت ووجه وقلب، وعلى إعطاء شكل ولون ونغم لشعر دانتي، على طول طريق الجمال، الذي قطعه ببراعة؛ وهكذا ينقلون أعمق الحقائق وينشرون، باللّغات الخاصّة بالفن، رسائل السّلام والحريّة والأخوّة.
في هذه اللحظة التاريخيّة بالذات، التي وُسِمَتْ بالعديد من الظلمات، من خلال المواقف التي تحطّ من قَدْرِ الإنسانيّة، وانعدام الثقة والافتقاد لآفاق مستقبليّة، لا يزال بإمكان شخصيّة دانتي، نبيّ الرجاء والشاهد على الرغبة البشريّة في السعادة، أن تَهَبَنَا الكلمات والأمثلة التي تعطي دفعة لمسيرتنا. يمكنها أن تساعدنا على التقدّم بهدوء وشجاعة في حجِّ الحياة والإيمان الذي نحن جميعًا مدعوون للقيام به، حتّى يجد قلبنا السّلام الحقيقيّ والفرح الحقيقيّ، حتّى نصل إلى الهدف النهائيّ للبشريّة جمعاء وهو «المحبّة التي تحرّك الشمس وسائر النجوم» (الفردوس، 33، 145).
أُعطِيَ في الفاتيكان، يوم 25 مارس/آذار، في عيد بشارة السيّدة العذراء، من العام 2021، في السنة التّاسعة مِن حبريّتي.
************
جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021 ©
[1]تَمَّ اعتِمادُ النَّصِّ العَرَبِيّ مِنْ: الكوميديا الإلهيّة، ترجمة حَسَنْ عُثْمَان، ثَلاثَة أَجزاء، الجحيم 1959، المطهَر 1964، الفردوس 1968، دار المعارف للنَّشر، مصر.
[2]In praeclara summorum (30 أبريل/نيسان 1921): ( أعمال الكرسي الرسولي) AAS 13 (1921)، 209-217.
[3]را. المرجع نفسه، 210.
[4]Ep. Nobis, ad Catholicam، (28 أكتوبر/تشرين الأوّل 1914): AAS 6 (1914)، 540.
[5]كلمة إلى المجمع المقدّس والكرادلة (23 ديسمبر/كانون الأوّل 1965): AAS 58 (1966)، 80.
[6]را. AAS 58 (1966)، 22-37.
[7]كلمة إلى المشاركين في اللقاء المُنظَّم من المجلس الحبري للتَّنمِية البشريَّة والمسيحيَّة، 23 يناير/كانون الثاني 2006، تعليم 2006 II/1، 92-93.
[8]المرجع السابق، 93.
[9]را. (رقم 4): AAS 105 (2013)، 557.
[10]رسالة إلى رئيس المجلس الحبري للثقافة (4 مايو/أيّار 2015): AAS 107 (2015)، 551-552.
[11]المرجع السابق، 552.
[12]L’Osservatore Romano، 10 أكتوبر/تشرين الأوّل 2020، 7.
[13]را. اعترافات القدّيس أغسطينُس، 1، 1: المؤلفات اللاتينية لأباء الكنيسة 32، 661.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana