سينودس الأساقفة الجمعية الخاصة الثانية من أجل أفريقيا الكنيسة في أفريقيا "أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم" (متى 5/13 و14)
الخطوط العريضة
حاضرة الفاتيكان تمهيد
أنقضى اثنا عشر عاماً على الاحتفال بالجمعية الأولى الخاصة لسينودس الأساقفة من أجل أفريقيا (من 10 أبريل إلى 8 مايو 1994) والتي كان موضوعها: «الكنيسة في أفريقيا ورسالتها للبشارة نحو عام 2000: "تكونون لي شهوداً" (أع 1/8)». في 6 يناير 1989، كان خادم الله يوحنا بولس الثاني قد أعرب عن نيته في دعوة هذا المؤتمر الكنسي الهام، ليعطي هكذا فترة زمنية كافية لتحضير هذه الجمعية. قُوبلت المبادرة بالحماس، وحركت فكرة هذه الجمعية الأولى الخاصة من أجل أفريقيا كل أعضاء الكنيسة الكاثوليكية في أفريقيا، منتظمين في إيبارشيات ورعايا وحركات كنسية. أسترعى هذا الأمر انتباه أعضاء كنائس وجماعات كنسية أخرى، بل وحتى ممثلي ديانات غير مسيحية، وبصفة عامة أيضاً، أُناس من ذوي الإرادة الصالحة من كل القارة الأفريقية. جدير بالذكر أن نتائج مبادرة السينودس، منذ التحضير له وحتى الاحتفال به، من صلوات وتبادل معلومات، ومشاركة الأفراح والآلام المتعلقة بالأوضاع الكنسية والثقافية والاجتماعية والسياسية، والأفكار التي تعمقت حول كل من الموضوعات – التي دارت في أجواء من الشركة الكنسيّة الخالصة، الخاصة بالهيئة الأسقفيّة، التي يترأسها أسقف روما بصفته رئيساً للسينودس والراعي العام للكنيسة – كل هذه النتائج قد جمعها الإرشاد الرسولي الكنيسة في أفريقيا. إن هذه الوثيقة، التي تم إعلانها يوم 14 سبتمبر 1995، قد وجهت النشاط الرعوي للكنيسة الكاثوليكية في أفريقيا خلال العقد الماضي. وبناءً على رغبة الكثيرين من الأساقفة والكهنة والمكرسين والمؤمنين العلمانيين، أعلن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، يوم 13 نوفمبر 2004، عن نيته عقد جمعية ثانية خاصة للأساقفة من أجل أفريقيا. ومن بعده، أكد قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر مشروع سلفه، يوم 22 يونيو 2005، في حضور المجلس الخاص بأفريقيا في أمانة السر العامة لسينودس الأساقفة، بإعلانه قرار دعوة الجمعية الخاصة الثانية للأساقفة من أجل أفريقيا للانعقاد في روما. بالتعاون مع المجلس السابق ذكره، حدد قداسة البابا موضوع هذه الجمعية السينودسية كالتالي: "«الكنيسة في أفريقيا في خدمة المصالحة والعدالة والسلام: "أنتم ملح الأرض ...أنتم نور العالم" (متى 5/13 و14)». يأتي هذا الموضوع في تواصل مع الجمعية الخاصة الأولى لسينودس الأساقفة من أجل أفريقيا، وسيتضمن تقييماً للنتائج التي تم التوصل إليها على كل المستويات، معطياً الأولوية، بكل تأكيد، للبعد الكنسي. ومنذ الجمعية السينودسيّة الأخيرة، تغير الوضع بطريقة ملحوظة. يتطلب هذا الواقع الجديد فحصاً خاصاً من أجل مجهود كرازي متجدد، يتطلب بدوره تعميقاً في بعض الموضوعات الخاصة والهامة لحاضر الكنيسة الكاثوليكية ومستقبلها في القارة الأفريقية الكبيرة. بفضل الله، في السنوات الأخيرة، شهدت الكنيسة الكاثوليكية – كعائلة الله الساعية في أفريقيا- تقدماً إضافياً على صعيد القارة كلها، خصوصاً في ما يتعلق بعدد المؤمنين، الذين قد بلغوا حسب إحصائيات 2004، عدداً إجمالياً هو 148817000، مع 630 إسقفاً، و31259 كاهناً، منهم 20358 كاهناً إيبارشياً و10901 كاهناً راهباً. كما يوجد 7791 أخاً علمانياً، و57475 راهبة، و379656 معلماً للتربية الدينية المسيحية. كذلك الدعوات الأفريقية الإرسالية العاملة رعوياً في كنائس خاصة في أفريقيا، أو في قارات أخرى، فقد تزايدت بطريقة ملحوظة. كذلك الأمر بالنسبة لأنشطة الكنيسة في التربية والمساعدة، فقد كانت حاسمة في العديد من البلاد التي عاشت ظروفاً طارئة حرجة. وإذ نشكر الله على هذا الوضع الكنسي الإيجابي، يتوجب أن يكون التحضير للجمعية الخاصة الثانية فرصة سانحة لكل شعب الله، تحت قيادة رعاته، لكي يكثف الصلاة، ويتعمق في التفكير الذي تتبعه المبادرات، من اجل انطلاقة أفضل نحو القداسة. في هذا كله، يقتفي شعب الله خطى الكثير من الرعاة والمؤمنين الأفارقة، الذين باستشهادهم حتى حديثاً في أيامنا، قد أكدوا إيمانهم المسيحي، مساهمين بذلك، بطريقة مثالية، في أن تصبح أفريقيا أكثر فأكثر "وطناً ليسوع المسيح". إن الإنجيل الذي أعلنوه هو الملح الحقيقي للأرض، وهو ضمانة كرازة عميقة الجذور، قادرة على الصمود في وجه كل شدّة.وهكذا، فإن البشرى السارة، التي تصاحبها شهادة خدمتهم الكنسية الصافية، تصبح نوراً للعالم، يضيء في الظلمات التي تكون أحياناً بالغة الكثافة في معظم القارة الأفريقية. بإتحاد القلب والروح مع الأب الأقدس، على آباء السينودس أن يواجهوا الوضع الحالي بالغ التعقيد وغير المؤاتي غالباً في أفريقيا، بأسلحة النور (راجع رومية 13/12)، وبالمحبة المسيحية الراسخة، وبالرجاء الذي ينعش تلاميذ الرب يسوع القائم من بين الأموات. بالإضافة إلى مصاعب البشارة التي قد تأتى من أسباب سياسية أو دينية أو اجتماعية، فهناك مشاكل خطيرة تطرح أسئلة على المسيحيين وكل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة. يتعلق الأمر بأوضاع الفقر، والظلم، والمرض، والاستغلال، ونقص الحوار، والانقسام، وعدم التسامح، والعنف، والإرهاب، والحرب. إن الكنيسة، في إطار أمانتها لوصية يسوع المسيح، لا تمل من إعلان البشرى السعيدة، حتى يمكنها، من خلال خدمتها الرعوية المتشعبة، أن تقدم آفاق المصالحة الكنسيّة والاجتماعية، مصالحة المسيح سلامنا، مصدر العدالة الحقيقية، للقارة الأفريقية كلها. والكرازة، وهي المهمة الأساسية التي أعطاها المعلم الإلهي (راجع متى 28/19)، لا يمكن فصلها عن التزام رجال الكنيسة بأن يكونوا "سامريين" (صالحين) للكثيرين من الإخوة والأخوات الذين يطلبون العون والشفقة (راجع لوقا 10/29-37)، وعن مساعدة الفقراء الكثيرين والمحتاجين إلى الدفء الإنساني، ليشهدوا بذلك لمحبة الله (راجع متى 25/31-46). وبإعلان الإنجيل، وبرسالة التربية في كل المستويات، وبالمؤسسات الخيرية، تصبح الكنيسة أكثر نشاطاً في تنمية الحوار والسلام والعدالة في المجتمع الأفريقي المتجدد، الذي يتقدم بحمية نحو تنمية شاملة للإنسان الأفريقي، فيكتسب بذلك المكانة اللائقة به في قلب الجماعة الدولية. ووفقاً للأسلوب الاعتيادي، يتوجب على هذه الخطوط العريضة، المنشورة في أربع لغات: الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والإيطالية، أن تشجع مناقشة واسعة حول موضوع السينودس، بمساعدة الأسئلة الواردة في نهاية الوثيقة. وترجع إلى كل مجلس أسقفي مهمة ترجمتها إلى اللغات المحلية، لتشجيع مشاركة جماعية أكبر في التحضير للسينودس. ويتوجب على المؤسسات المعنية بالأمر أن ترسل أجوبتها قبل نهاية شهر أكتوبر 2008، ليتسنى الوقت لصياغة "وسيلة العمل"، أي وثيقة العمل للجمعية الخاصة الثانية لسينودس الأساقفة من أجل أفريقيا، الذي نضع مسيرته الطويلة والخصبة كما نأمل، إلى رعاية أمنا مريم العذراء، سيدة أفريقيا.
نيكولا إيتروفيتش
المقدمة 1. بمرور أحد عشر عاماً على نشر الإرشاد الرسولي الذي أعقب سينودس الأساقفة الكنيسة في أفريقيا[1]، وفي غمرة الشكر لله على نعمه التي أغدقها طيلة هذا العقد، تحتفل الكنيسة بالحدث وتشعر بأهمية التزام عاجل شامل من أجل المصالحة والعدالة والسلام على سطح القارة. مجرد تذكر هذا الحدث، يبعث على السرور لما لقيه من قبول. لذلك، فأي معنى وأي مضمون يمكن إعطاؤهما لهذا التذكار، تمسكاً بكل طاقته وتنشيطاً لكل جماعاتنا من أجل الجمعية الثانية؟ يمكن بلورة مرام هذه الجمعية في هدفين:
2. في إرشاد الكنيسة في أفريقيا اقترح البابا يوحنا بولس الثاني، مع نهاية الألفية الثانية، عمل موازنة وتشخيص يجمل تاريخ الكنيسة في أفريقيا، منذ اهتداء خازن الملكة قنداقة، وحتى تكوين كنائس محلية أفريقية أصيلة كاملة التجذر في الكثلكة وكاملة الوعي بمسئوليتها تجاه رسالة المسيح الوحيدة المناطة بالكنيسة بصفتها عائلة الله. نظراً لهذا التاريخ، وعلى ضوء ساعات العبودية الحالكة والاستعمار، وعلى نور الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكلها تكشف عن وضع مقلق ولكنه مملوء بالوعود، حاول البابا كشف "كيفية" وصول الأمر إلى هذا الحد، وأن يدل على طرق الحل الواجب سلوكها، حسب إنجيل المسيح: انطلاقا من رؤية للكنيسة باعتبارها عائلة الله في أفريقيا، تتوجب تنمية "تضامن رعوي عضوي يشمل كل الأرض الأفريقية والجزر المجاورة لها"[2]، بحثاً عن حلول للمشاكل وتسويات للمنازعات التي تعاني منها أفريقيا. لقد كان ذلك أيضاً اختياراً للعائلة الأفريقية كمكان أول للكرازة وكمنطلق لمواجهة تحديات الكرازة في الألفية الثالثة: ضرورة عاجلة لإعلان الإنجيل ولاقتراح المعمودية، مع التعمق الذي لا غنى عنه للمعمدين في الإيمان وشجاعة الشهادة واختيار الغفران والمصالحة حتى في الأوضاع البالغة المأساوية، وبالالتزام بتنمية العدالة والسلام. قدم الإرشاد نوعاً من خطة العمل الرعوي للكنيسة - عائلة الله التي في أفريقيا، الأمر الذي يسمح لها بأن تكون أمينة على دعوتها وعلى رسالتها، وأن تخدم إنسانية المسيح المتألمة في جسد الشعوب الأفريقية. وهكذا ترجم الإرشاد الوضع غير الإنساني والذليل الذي تعيشه الشعوب الأفريقية كمأساة وكتحدٍ، ومن ثمّ اقترح أن تكون المواجهة انطلاقا من رؤية للكنيسة باعتبارها عائلة الله. 3. إن رد الكنيسة في أفريقيا على هذا الإرشاد، من ناحية، والتطورات المستجدة في القارة، من ناحية أخرى، جعلا من الجمعية الخاصة الثانية لسينودس الأساقفة من أجل أفريقيا ضرورة عاجلة لفحص مدقق لبعض المسائل التي عرضت في الجمعية الأولى، وخصوصاً الأمور المتعلقة بالمصالحة وبالعدالة وبالسلام. في هذا السياق بالذات، وبتركيز النظر على المسيح، وبالرغبة في تمييز علامات الأزمنة الجديدة وفي تنشيط الرجاء، دعا البابا يوحنا بولس الثاني إلى جمعية خاصة ثانية لسينودس الأساقفة من أجل أفريقيا. وفي المقابلة التي منحها قداسته، يوم 13 نوفمبر 2004، بمناسبة مرور 1650 عاماً على مولد القديس أغوسطينوس، للمشاركين في مؤتمر أساقفة أفريقيا وأوروبا، حول موضوع "الشراكة والتضامن بين أفريقيا وأوروبا"، صرح قائلاً: "بقبول تمنيات المجلس الذي أعقب السينودس المعبرة عن رغبات الرعاة الأفارقة، أنتهز الفرصة لأعلن لكم عن نيتي في الدعوة لالتئام جمعية ثانية خاصة لسينودس الأساقفة من أجل أفريقيا. أوكل هذا المشروع إلى صلواتكم، بينما أدعوكم جميعاً بحرارة لكي تطلبوا من الرب تلك النعمة الثمينة، نعمة الشراكة والسلام لأرض أفريقيا الحبيبة"[3]. أما قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، فمنذ بداية حبريته، أكد هذه الدعوة محدداً الموضوع: «الكنيسة في أفريقيا في خدمة المصالحة والعدالة والسلام: "أنتم ملح الأرض ... أنتم نور العالم" (مت 5/13 و14)». علي الآباء الذين سيتجمعون في السينودس أن يتأملوا حول إعلان الإنجيل في سياق يتميز بأحداث تتطلب ردوداً نشيطة وأمينة للكلمات التي يوجهها الروح القدس للكنيسة – عائلة الله في أفريقيا في تلك الساعات الحاسمة من تاريخها. أجد من الواجب، هنا، التشديد على استمرارية التوجه تواصلاً مع الجمعية الأولى، حتى يجتهد الجميع في إدراك القيمة الروحية والرعوية لهذين الحدثين. 4. ترتبط الجمعيتان بالأهمية العاجلة لكرازة مستمرة وعميقة في الزمن.وفي هذا الإعلان عن ملكوت الله الذي جاء به يسوع المسيح، يظهر الالتزام من أجل المصالحة والعدالة والسلام كمكان لـتأوين ملكوت المحبة هذا: "ملكوت الله بر وسلام وفرح في الروح القدس" (روم 14/17وما بعده)[4]. في الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية الراهنة في أفريقيا، نجد أن الكنيسة-عائلة الله تنهل من المسيح، كلمة الله الحية دائماً، طاقتها لتجاوز التعب والاستسلام، لتتحرر من كل أشكال القهر. يدعوها المسيح، في الواقع، لتحمل نير حبه، ففي المسيح تجد اللازم لحياة جديدة، كما تجد المذاق والنور لتحرير الشعوب الأفريقية من مختلف الظلمات التي تعطل مشوارها في التاريخ. حتى يضيء كلياً النور النابع من الكلمة على إفريقيا كلها، تقدم الكنيسة مذاق كلمة الحياة[5] الذي به يحقق المسيح، داخل قلوب البشر، تحول أفريقيا. بقدر ما يتجذر حب المسيح في قلوب الشعوب الأفريقية، في الثقافات والمؤسسات الأفريقية، بقدر ما ستتمتع القارة وشعوبها والعالم أجمع بثمار المصالحة والعدالة والسلام. مع الأخذ بعين الاعتبار تفرعات الموضوع، سنكتفي في هذه الخطوط العريضة بتقديم التالي: 1. أفريقيا في فجر القرن الواحد والعشرين. الفصل الأول أفريقيا في فجر القرن الحادي والعشرين 5. بالقرب من ضريح القديس بطرس، أظهرت الجمعية الأولى لسينودس الأساقفة من أجل أفريقيا قوة الإيمان الذي تعيشه الكنيسة في أفريقيا. وكان لآباء السينودس الحق في وصفه: "سينودس قيامة ورجاء"[6]. وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على نشر الإرشاد الرسولي عقب السينودس، نستطيع أن نقول مع القديس بولس أن "الرجاء لا يخيب صاحبه، لأن محبة الله أُفيضت في قلوبنا" (روم 5/5). وراء الآم اللحظة الحاضرة، يستطيع من لهم عيون للنظر وآذان للسماع أن يميزوا، في الواقع، عمل العناية الإلهية في أفريقيا.
أولاً: وضع القارة منذ نشر إرشاد "الكنيسة في أفريقيا" 1. بعض التطورات الإيجابية 6. في معمعة الأحداث الأليمة التي تعتصر أفريقيا، نستطيع القول مع قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر إن أفريقيا هي "أكبر رجاء للكنيسة"[7]. في الواقع، يمكن تمييز علامات الرجاء من أجل نهضة مسيحية خصيبة ومفعمة بالنشاط، وواعدة بقيام مجتمعات جديدة نلخصها في النمو الملحوظ في أفريقيا لعدد الكاثوليك، والكهنة، والرهبان والراهبات[8]، وكذلك العدد المتنامي للمرسلين الأفارقة في أفريقيا وفي خارج القارة إلى حد خلق قاعدة للاستشارة على مستوى القارة. هناك أيضاً حيوية الليتورجيات الأفريقية والجماعات الكنسيّة النشيطة، بالإضافة إلى خلق وإعادة هيكلة إييارشيات وقطاعات كنسيّة. وكذلك الدور المتصاعد للكنيسة في تنمية تطور القارة، خصوصاً في مجالي التربية والصحة والكفاح من أجل التعجيل بسيادة القانون على صعيد القارة كلها. وأخيراً، بصرف النظر عن الضعفات، تستمر الكنيسة في التمتع بمصداقية كبيرة لدى الشعوب الأفريقية. بالنسبة للعديد من دول أفريقيا، تظل الكنيسة الواقع الوحيد الذي يعمل جيداً حتى الآن، فيسمح للشعوب بالاستمرار في الحياة وفي رجاء غد أفضل. إن الكنيسة لا تمنح فقط المعونة الضرورية وتضمن التعايش السلمي وتساهم في إيجاد طرق ووسائل بناء الدولة، بل إن الكنيسة هي أيضاً هذا المكان المميز الذي منه ينطلق مجدداً الحديث عن المصالحة والمسامحة. هذه هي الأسباب الباعثة على الفرح في الرب (راجع رومية 5/3-4)، من أجل العجائب التي صنعها الرب في أفريقيا خلال هذه السنوات الإحدى عشرة الأخيرة. 7. من الناحية الاجتماعية أيضاً، يمكن رصد بعض التطورات الجديدة: حلول السلام في بعض البلاد الأفريقية، الرغبة العارمة في السلام المنتشرة في القارة، خصوصاً في منطقة البحيرات العظمى؛ والمعارضة المتصاعدة ضد الفساد؛ والوعي القوي بضرورة تنمية المرأة الأفريقية وبكرامة كل شخص بشري؛ والتزام العلمانيين خلال "الجمعيات المدنية" من أجل تنمية "حقوق الإنسان" والدفاع عنها؛ والتزايد المستمر لعدد رجال السياسة الأفارقة ذوي الوعي والتصميم على إيجاد حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية. في هذا الإطار، تقوم الكنيسة بتشجيع الجهود المبذولة لتوحيد أفريقيا كلها: من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. في هذا الصدد، ينمو الأمل في رؤية الإتحاد الأفريقي يضم أكبر عدد ويصبح أكثر فعالية في حل الصراعات بين الأمم الأفريقية وبين المجموعات العرقية. إن التطورات الحديثة في خلال هذه السنوات الإحدى عشرة الأخيرة تقدم فرصة سانحة جديدة لرسالة الكنيسة في أفريقيا. من الضروري العمل حتى تنطلق القوى الروحية الكبرى للقارة، من كل حدب وصوب، وحتى تُخلق الظروف المؤآتية لنهضة جديدة لأفريقيا على المستوى الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
2. بعض التطورات السلبية 8. ومع ذلك، لا يمكن التغافل عن أمر واقع: فإلى جانب هذه الآفاق الباعثة على الراحة، هناك الكثير من الأوضاع المقلقة التي سبق فأدانها الإرشاد، ومع ذلك لم تزدد إلا سوءاً، مما يولّد مستقبلاً محفوفاً بالتقلبات، مثل "التدهور العام لنوعية الحياة، ونقص الموارد لتعليم الشبيبة، وقصور الخدمات الصحية والاجتماعية الأساسية الذي يتسبب في استمرارية الأمراض المتوطنة، ووباء الايدز المروّع، وهناك أيضا عبء الديون الثقيل والذي لا يمكن تحمله أحياناً، وأهوال الحروب التي يقتتل فيها أخوة والتي تؤججها تجارة عديمة الشرف للأسلحة، علاوة على المشهد المشين والمثير للشفقة للاجئين وللمهجرين"[9]. وكيف لا يمكن توجيه إدانة صارمة للمجازر الفظيعة التي وقعت في بعض الأماكن في أفريقيا؟ هناك دلائل وأرقام تستجوبنا دائماً مثل استمرارية تصاعد وفيات الأطفال. منذ أكثر من عشرة سنوات، في أكثر بلاد أفريقيا فقراً، يستمر تدني الدخول ثابتاً. ولا يزال الحصول على مياه الشرب بالغ المشقة بالنسبة للكثيرين. بصفة عامة، تعيش الغالبية العظمى من الأفارقة حالة نقص في المواد وفي الخدمات الضرورية. لا يمكن لهذا الوضع الذي تعيشه الآن أفريقيا إلا أن يستجوب الضمائر.أفريقيا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تعتمد على البلاد الغنية، مما يجعلها أكثر من أية قارة أخرى سهلة الانقياد لمناوراتهم الهادفة إلى العطاء بيد وأخذ الضعف باليد الأخرى، كما ترمي أيضا إلى الحفاظ على تسلط قوي على مجريات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل حتى الثقافية، في البلاد الأفريقية.أفريقيا منسية عن قصد في هذا العالم الذي يُبنى، ولا تُذكر إلا عند وجوب استعراض مظاهر بؤسها، أو لاستغلالها. والآن، فأي رافعة يجب استخدامها لفتح بارقة رجاء في مثل هذا الجدار الذي يسد الأفق الاجتماعي-الاقتصادي الأفريقي؟
3. غاية هذه الخطوط العريضة 9. في مواجهة أوضاع مختلفة كهذه، يصعب قول كلمة وحيدة كما لو كنا نتصور حلاً ذا قيمة شاملة. ليس هذا طموح هذه الخطوط العريضة، ولا رسالتها. ليس قصدها أن تقول كل شيء، بل أن تعدّد بعض الأولويات النابعة من الدراسة ومن العمل في مجال المصالحة والعدالة والسلام. يتعلق الأمر بالحري بوضع أسئلة وبالتشجيع على البحث الجماعي عن حلول في إطار المسعى السينودسي الذي بدأ بالجمعية الأولى.
ثانياً: بعض الأولويات 10. لا يمكن لتفكير متعمق حول موضوع الجمعية الثانية الخاصة من اجل أفريقيا لسينودس الأساقفة – أي «الكنيسة في أفريقيا في خدمة المصالحة والعدالة والسلام: "أنتم ملح الأرض ... أنتم نور العالم" (مت 5/13 و14» - الاستغناء عن دراسة حول الأسباب التي تستطيع تفسير كل هذا الكم من الكراهية والظلم والحروب الناشطة في القارة. بالفعل، إن الصفة العاجلة التي تتسم بها هذه الجمعية الخاصة الثانية من أجل أفريقيا ترتبط بعذاب الشعوب الأفريقية، وبفقدان الطابع الإنساني وبالقهر المستمر في هذه القارة، التي تطالعنا فيها مجموعة صراعات ومشاكل تمثل بؤرة تحديات الكرازة في أفريقيا المعاصرة. في الإرشاد الرسولي عقب السينودس، وحسب تقدير البابا يوحنا بولس الثاني، فإن أكبر تحدي لتحقيق العدالة والسلام في أفريقيا يكمن في حسن إدارة الأمور العامة في مجالي السياسة والاقتصاد المتلازمين[10]. ترتبط معاناة الشعوب الأفريقية، في مجملها، بالإدارة في هذين المجالين، وبمجال الثقافة أيضا. هذا هو التحدي الأكبر للكرازة في أفريقيا حيث تحدد الحياة، بل والإنسان نفسه، من خلال "العلاقة"، "الكينونة مع" في إطار جماعي أساساً. في هذه الأبعاد الثلاثة، أيضا، خصوصاً البعد الاجتماعي-السياسي والاجتماعي-الاقتصادي والاجتماعي-الثقافي، ننوي، في السطور التالية، دعوة الكنائس المحلية في أفريقيا إلى التأمل وإلى اقتراح طرق للحل في ما يتعلق بالمصالحة والعدالة والسلام.
1. الجانب الاجتماعي-السياسي 11. أحد التحديات الكبرى في أفريقيا المعاصرة هو فشل دولة ما بعد الاستعمار، في غالبية البلاد الأفريقية. سيكون من السذاجة أن تعزى أسباب هذا الفشل السياسي في أفريقيا إلى التركيبة المتعددة الأعراق للدول، أو إلى الحدود الاصطناعية الموروثة عن المستعمرات. بعيداً عن التباينات وتعارض المصالح العرقية، توجد لدى الأفارقة، في الواقع، فكرة قومية، وإلا لما كان يمكن تفسير تمسك كل أفريقي ببلده وبتاريخه. السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بمعرفة كيف يمكن تحويل التعددية إلى عامل إيجابي، للبناء وليس للهدم؟ ونفس السؤال بالنسبة للحدود الاصطناعية: هل نحن واثقون بأن الحدود الجديدة "الطبيعية" لن تخلق المزيد من المشاكل؟ أين ستوجد هذه الحدود الطبيعية التي ليست بعشوائية، أو على الأصح ليست إيديولوجية؟ من سيكون هذا الحَكم النزيه الذي سيرضي الكل إلى أقصى حد؟ ألا يجب أن التمسك بحكمة الآباء مؤسسي منظمة الإتحاد الأفريقي (O.U.A.)، الذين في عام 1963، اختاروا عدم إعادة البحث في الترسيم الحالي للحدود؟ على أكثر الاحتمال، يكمن التحدي في جانب أسلوب الحكم الجيد وتكوين طبقة سياسية قادرة على استرجاع أفضل تقاليد الأجداد وعلى دمجها في مبادىء حكم المجتمعات الحديثة. ليس المقصود بذلك التهوين من كون التعددية العرقية هي غالباً دافع لتوترات داخل الدول، ولا إنه يوجد، عملياً، في الكثير من البلاد الأفريقية، فقدان لشرعية الحكام في عيون شعب يتساءل عمن تخدم الدولة، وتدمير فعلي للدولة بواسطة من يُفترض فيهم أن يكونوا خدامها الأوفياء.
12. في بعض البلاد الأفريقية، توجد بالفعل توترات اجتماعية مستمرة تعرقل التقدم، وتتسبب في اضطرابات سياسية ونزاعات مسلحة. يؤدي التشيع للقبيلة والنزاعات على الحدود ومحاولات التوسع إلى صراعات مسلحة باهظة التكاليف من ناحية الضحايا البشرية، كما أنها تستنزف الموارد المالية. في بعض بلاد أفريقيا، هناك انتهاك مستمر للحقوق الأساسية للإنسان مع كل نتائجه، كما أن السلام فيها مشوب بهيمنة أو بهدوء مفروضين بالقوة، مما يضمن بقاء الحكم في يد حفنة من الرجال على حساب الشعوب. في مثل تلك الظروف، يستحيل على المواطنين المشاركة في الحياة العامة أو أن يكون لرأيهم الجماعي أي وزن مؤثر، مما يخلق عندهم الميل إلى عدم الالتزام واللامبالاة. وطالما لم يتم التوصل إلى خلق دول يسود فيها القانون في أفريقيا، ويحكمها أفارقة ذوي ديموقراطية أصيلة، فالخطر كبير في استمرار مثل هذا الوضع.
13. إن أحر أمنيات آباء السينودس في رؤية "قيام دولة القانون في بلادنا لحماية حقوق وواجبات المواطنين"[11] لم تجد الصدى المتوقع لدى أغلب حكام البلاد الأفريقية. نقص الاعتراف بالفرد وبالجماعة معاً، وبمتطلباتهم الخاصة، يولّد الشقاق ومن ثمّ الحرب وعواقبها. يعتبر دمار الحرب عقبة كؤوداً أمام كل عملية تطور، إذ أنه يتسبب في مأساة اللاجئين، كما في سياق المعاناة بسبب الحرب والجوع، والحزن والخوف، والعري والمرض، والأوضاع المُهِينة؛ إنها تحطم كرامة الشخص البشري المخلوق على صورة الله ومثاله. في غالبية الدول الأفريقية، يدل الواقع على أن موقف السلطة السياسية يتميز بتجاهل الشخص البشري، وحقوقه الأساسية التي لا يمكن المساس بها. إن إقامة الديموقراطية الحقيقية التي تضمن أمان الممتلكات والأشخاص هو شرط لا غنى عنه لتقدم البلاد الأفريقية.
2. الجانب الاجتماعي-الاقتصادي 14. إذا كان صحيحاً أن أفريقيا قد عاشت تاريخاً طويلاً وحزيناً من الاستغلال بواسطة آخرين[12]، يجب القول بأن هذا الوضع لم ينتهِ بانتهاء المستعمرات، فهو مستمر اليوم أيضا بصور جديدة، بما فيها عبء الديون الباهظ، والشروط التجارية الجائرة، ودفن النفايات السامة (في أفريقيا)، والشروط المفرطة القسوة التي تفرضها برامج الترشيد البنيوي.
15. في غالبية البلاد الأفريقية، ورغماً عن التقدم الذي تحقق منذ السنوات الأخيرة، ما زال معدل مكافحة الأمية بين الأدنى على الصعيد العالمي. في بلاد عديدة، يتدهور نظام التعليم باستمرار، كما إن الرعاية الصحية مجرد حطام، والمساعدة الاجتماعية تكاد تكون غير موجودة. في ظروف الفوضى هذه، يعتبر الضعفاء هم الأشخاص المهددون بالأكثر. كذلك الوضع على الصعيد السكاني، إذ لا يمكن أن يظل الإنسان مكتوف الأيدي بمجرد الوعي بخطر الإخلال بالتوازن بين شعب تبلغ زيادته السنوية معدلاً عالمياً قياسياً، وبين موارد راكدة إن لم تكن متقهقرة. تتناقض موارد أفريقيا الضخمة مع بؤس الفقراء فيها، حتى أصبحت فاضحة أكثر فأكثر رؤية الثروات المتراكمة بين يدي حفنة من أصحاب الامتيازات. تجاه هذا الوضع غير المقبول، يشجب الإرشاد الرسولي الذي أعقب السينودس الكنيسة في أفريقيا"عدم أمانة بعض الحكام الفاسدين الذي يختلسون الموارد القومية لصالحهم، بتحويل الأموال العامة إلى حسابات خاصة في البنوك الأجنبية، بالتواطؤ مع مصالح خاصة محلية أو أجنبية"[13]. من هنا يتوجب بصفة عاجلة دراسة طرق ووسائل تشجع بروز سياسيين شرفاء مصممين على حماية التراث العام ضد كل أشكال التبذير والاختلاس.
16. أما في ما يتعلق بالنشاط الصناعي، فهو يعتمد إلى حد كبير على استيراد المنتجات الصناعية. كما أن عدد المنشآت والخدمات الإنتاجية في أفريقيا هو ذو طابع محدود. إلى حد ما، من الحق القول بأن أفريقيا تنتج ما لا تستهلكه، وتستهلك ما لا تنتجه. ما السبيل، إذاً، للخروج من هذه المفارقة؟ بالإضافة إلى هذا، هناك ميل ملحوظ إلى تقليص حجم هذه المنشآت والخدمات، علاوة على تدني جودتها، في سياق التعديلات البنيوية وتفشي البطالة. في هذا الصدد، تُلاحظ أيضاً مظالم اقتصادية خطيرة، مثل مشكلة الأيدي العاملة المهاجرة، والأجور غير العادلة، والعقود غير القانونية. أما الإجرام الشبابي، والمخدرات والفساد والبطالة، التي سببها هذه المظالم الاقتصادية، فقد بلغت حدوداً غير مقبولة، في بعض البلاد. تتابع الميل إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي فتعمقت أكثر فأكثر الأزمة الأفريقية: فتقنيات الإنتاج الزراعي بدائية بصفة عامة، ومازال الإنتاج الزراعي تحت رحمة العوامل الطبيعية من تربة ومناخ. إن هذه العوامل التي تزيد وطأة الصعوبات السياسية الداخلية، يمكن أن تفسر كيف أن الإنتاج الغذائي للقارة يمثل بالكاد عُشر احتياجاتها. ثم إن فشل السياسات الزراعية لا يُؤدي إلى صعوبة توفير الأمن الغذائي للشعوب فحسب، بل يتسبب أيضاً في النزوح من الريف بأعداد كبيرة، خصوصاً بين الشباب. من المهم أن نلفت انتباه الشباب إلى أن العيش في المدن لا يساهم حتماً في إسعاد الشخص. من هنا تنبع الأهمية العاجلة لتبني سياسات جديدة لزيادة قدرات القرى وجعلها أكثر جاذبية للشباب.
17. بهذه المشاكل الاقتصادية ترتبط أيضاً مسألة تجارة الأسلحة، هذه العثرة التي "تزرع الموت" في أفريقيا[14]، والتي تعتبر علامة بليغة على الفشل السياسي في أفريقيا. إنها تجارة لم تعد في خدمة بناء المدينة، ولا البحث عن الخير العام، وإنما في خدمة التخلص من الخصم السياسي والمدينة ذاتها[15]. تقع مسئولية هذا التدمير ليس فقط على المتقاتلين، بل أيضاً على تجار الأسلحة، سواء أكانوا قوى عالمية مهتمة بإضرام المنازعات حتى تجعل من تجارة الأسلحة وسيلة للاغتناء أو لتغذية وضع عدم استقرار لأهداف تربط معطيات الجغرافيا بسياسة لا علاقة لها بمصالح الشعوب، سواء أكانوا أصحاب إيديولوجيات محلية تستغل الشعب، وخصوصاً الأطفال، لإرواء عطشهم إلى السلطة. تستمر التجارة الدولية للأسلحة في جعل أفريقيا ساحة حرب دائمة. وما من شك وإلى حد كبير، في أن الموت تزرعه في أفريقيا مصالح قوية جداً متسلطة على العالم، وعملاؤها الأساسيون موجودون خارج أفريقيا. هذا الواقع هو الذي جعل أساقفة أفريقيا يتحدثون عن "حروب بالوكالة"[16]، فيعنون بذلك أن الأفارقة أنفسهم يدمرون بلادهم ويقتلون بعضهم بعضاً من أجل مصالح وفوائد "الآخرين". تتوسع تجارة الأسلحة هذه بفضل التوترات والانقسامات العرقية التي يعمل البعض على تفاقمها. يُظهر تاريخ البشر والشعوب أن الحرب، مع الأسف، ليست أمراً مستحدثاً. في أفريقيا المعاصرة، تكمن جذرية هذا الشر في هياج غالباً ما ينتج عن إرادة تدمير وقضاء على الحياة. بهذه الإرادة يعبر عن نفسه موقف أساسي أو "فكر" يهدف إلى تفتيت أو إنكار القيم، وخصوصاً تلك القيمة المقدسة التي للحياة البشرية. الحياة، وهي الكنز الأثمن في التقاليد الأفريقية، تُدَمر بطياشة وسهولة تبعثان على الاستغراب، تدميراً واسع النطاق ودونما تجريم حتى الآن في كثير من المناطق. لا يمكن التغاضي عن جانب آخر من الشر قد ألمح إليه السينودس السابق، ألا وهو الانقسامات والتوترات العرقية[17] التي تقود أحياناً إلى جرائم مشوؤمة. لتبرير مثل هذه الأفعال، غالباً، لا يتردد البعض في التذرع بالثقافات الأفريقية. باتت عاجلة اليوم إعادة التفكير في تجذرات هذه النزاعات على صعيد عالمي واسع.
3. الجانب الاجتماعي-الثقافي 18. تغيير الثقافة الاقتصادية في أفريقيا: ألا يعني هذا أنه بدلاً من الاعتماد حصرياً على سوق عالمي تعتبر أفريقيا مستبعدة منه افتراضيا، أنه يتوجب على أفريقيا أولاً أن تنظم أجراً جيداً للعمل الزراعي؟ الثقافة ثمرة نضج صبور لأساليب الكينونة والعمل؛ الثقافة ليست فقط فكر الشعب الذي أنتمي إليه والذي تتشربه في نفس الوقت أسمى أفكاري وأبسط حركات وجودي، بل هي أيضاً المجال الذي يدور فيه النشاط الروحي والخلاق لكياني كإنسان.
19. من العناصر الثلاثة التي يعتبرها الاقتصاديون مصادر الإنتاج (أي العمل، والأرض، ورأس المال)، لا ينقص أفريقيا لا العنصر الأول ولا حتى الثالث، إذا أخذنا بعين الاعتبار إنه يمكن تكوين رأس المال انطلاقا من الموارد الطبيعية التي لا تنكر وفرتها في أفريقيا. بناء عليه، من أين يأتي هذا الفقر؟ ألا يلعب الجانب الثقافي، بإعتباره أسلوب تصور تلك العناصر الثلاثة، دوراً هاماً في مسببات هذا الفقر؟ ألا تعتبر همة الأفريقي في العمل محجمة أكثر من اللازم ليعد قادراً على الدخول في منافسة مع همة من هم، في أماكن أخرى، يؤدون لذات العمل عبادة حقيقية؟ ألا تعتبر العلاقة بالأرض مُحقِرة؟ إذا كان صحيحاً أن سعر منتجات الأرض يتحكم في سعر الأرض نفسها، عندئذ أليس صحيحاً أن الأرض في أفريقيا لا قيمة لها لأن أسعار المنتجات الزراعية متدنية بطريقة ميئوس منها؟ تبدو أفريقيا كإحدى مناطق العالم التي تهمل مزارعيها.
20. في عصر العولمة، كيف نستطيع الحفاظ على أفضل الثقافات الأفريقية في نفس الوقت الذي يندمج فيها أفضل ما يأتي من الخارج؟ في هذا الصدد، يطرح قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر أسئلة، ليس على الأفارقة فحسب، بل أيضاً على العالم الغربي ليتحمل مسؤولياته تجاه أفريقيا إذ يقول: "لنعترف بأن أوروبا قد قامت بتصدير، ليس الإيمان بيسوع المسيح فحسب، ولكن أيضاَ رذائل القارة الأوروبية. لقد صدرت معنى الفساد، والعنف الذي يدمر أفريقيا حالياً. علينا أن نقر بمسؤوليتنا، كما علينا أن نعمل على أن يكون تصدير الإيمان [...] أقوى من تصدير الرذائل [...] علينا أن نعمل على تجذر الإيمان، ومعه القوة لمقاومة هذه الرذائل ولإعادة بناء أفريقيا مسيحية تكون أفريقيا سعيدة، وقارة عظيمة للأنسنة الجديدة"[18].إذا كان على الغرب أن يتساءل عن مسؤولياته الخاصة، فعلى الأفارقة أيضاً أن يتحملوا مسؤولياتهم. أمام ما يأتيهم من الخارج، هل يعرف الأفارقة دائماً كيف يختارون، أم هم مستهلكون سلبيون لكل ما يقدمه لهم عالم وسائل الإعلام، خصوصاً العنف والنزعة الاستهلاكية وفساد الأخلاق؟ كيف يوفقون بين تجذرهم في التقليد الأفريقي وبين نظرهم المتطلع للمستقبل؟ يتطلب مثل هذا النظر، في نفس الوقت، التجذر في التراث الثقافي الأفريقي، مثلما يتطلب القدرة النقدية والخلاقة على دمج الإضافات الثقافية الجديدة التي تسمح بتقدم الثقافة. لا يجب أن يغيب عن الأنظار أن ماضي الحضارات ليس إلا تاريخ استعارات مستمرة متبادلة في ما بينها، خلال القرون، دونما فقد لخصائصها المميزة، ولا لأصالتها العريقة. مثل هذه القدرة على الدمج والإبداع تتطلب فكراً منفتحاً ونقدياً. عندئذ يصبح السؤال الأساسي هو كيفية الحفاظ على التجذر في الجماعة في نفس الوقت الذي تنمو فيه الاستقلالية اللازمة للشخص لكي يتوطد كعامل سياسي واقتصادي واجتماعي؟ هذا هو السؤال الأكبر الذي يطرحه التطور المرجو للثقافة الأفريقية
21. هذه الاستقلالية للشخص هي حاسمة أيضاً في تنمية ثقافة الكتابة. تحديداً، الكتابة هي عمل فردي، على نفس المستوى كالقراءة، ينمي استقلالية الشخص ومحيط علاقاته. كيف تُنمى ثقافة الكتابة ويُنظم استخدامها دون فقدان التجذر الأفريقي في الشفاهة؟ في الواقع، لا يمكن تجاهل أنه إذا كانت النزعة العشائرية مستمرة في القارة، فهذا أيضاً بسبب الأمية وعدم اعتبار الفرد كائناً فاعلاً.في مثل هذا الوضع الهش، يضطر الفرد إلى الاعتماد حصرياً على التضامن العشائري. كيف يمكن التوفيق بين المعنى القوي للعائلة، وبين تنمية عادلة للشخص؟ كيف يمكن التوفيق بين الكتابة والشفاهة في تقدم الثقافات الأفريقية؟ لا يوجد مشروع اجتماعي ممكن دونما قاعدة اجتماعية متينة.
22. في بعض البلاد، نشهد اليوم أيضاً تفرقة جنسية ضحيتها النساء، إذ يجدن أنفسهن محرومات من بعض الحقوق المستحقة لكل شخص بشري. في بعض المجتمعات، يصل الأمر إلى حد اعتبار النساء كالعبيد، مما ينتهك ليس كرامتهن فحسب، بل ينتهك أيضاً أفضل تراث للتقليد الأفريقي الذي يرى في المرأة، وهي الرمز الأمثل للحياة، عطية ثمينة. يجب إدانة كل أشكال العنف التي تستهدف النساء. في هذا الإطار، لا يمكن للإنسان إلا أن تثور ثائرته لمعرفة أنه، في بعض الأوساط، تُهمش صغار البنات، منذ نعومة أظفارهن، أو تعتبرن متدنيات القيمة[19]. كما يتعرضن أيضاً، في بعض الأماكن، لبتر أجزاء من أجسامهن، أو يعاملن كمجرد عبيد، وهذا انتهاك خطير لكرامتهن وكرامة كل عائلة الله. لا يمكننا أيضاً نسيان المظالم الخطيرة المقترفة تجاه المسنين والأيتام والمرضى والأشخاص ذوي الإعاقة الحركية الذين تهملهم عائلاتهم وجماعاتهم أكثر فأكثر.إنه ظلم فادح في أفريقيا التي يعتمد كيان الشخص فيها على العلاقة، وليس على ما يملك أو ما يمكنه عمله. إنها خيانة وظلم تجاه الميراث المشترك. في كل هذه الأوضاع، تلعب وسائل الاتصال دوراً بالغ الخصوصية وعظيم الأهمية. يتوجب فوراً الإلحاح على أن تحترم هذه الوسائل أفضل تقاليد الأجداد، كما يجب عليها أن تكون في خدمة الحياة، وثقافة القيم، وبنيان الشخص في طموحاته الأكثر عمقاً.
23. علاوة على ذلك، فبالنسبة للعديد من الأشخاص، يعتبر الهروب خارج البلد الأصلي هو المخرج الوحيد، ولهذا يتعاظم عدد اللاجئين والمهاجرين الأفارقة الذين يحصون بالملايين على صعيد القارة كلها ومجاورات القارة. تعدد ظاهرة اللجوء والهجرة والنزوح من القرى يصاحبه ميل إلى رفض ثقافة وقيم الأجداد. من هنا تنبع الحاجة إلى الإلحاح من جديد على نداء البابا يوحنا بولس الثاني إلى الشباب: "أعزائي الشباب، يطلب السينودس منكم أن تأخذوا على عاتقكم ثقافة شعبكم، عاملين على إعادة تنشيطها، في أمانة لميراثكم الثقافي، وأن تسعوا إلى اكتمال فكركم العلمي والتقني، خصوصاً بالشهادة لإيمانكم المسيحي"[20]. ما من تقدم اقتصادي وتقني دون تجذر ثقافي. لذلك فالتفكير حول المصالحة والعدالة والسلام لا يمكنه احتقار المكونات الثقافية والدينية.
ثالثاً: الديانات في خدمة المصالحة والسلام والعدالة في أفريقيا 24. في هذا الإطار لا يمكن تغافل الفرص والصعوبات التي يقدمها الحوار مع بعض الفئات الإسلامية ومع أتباع الديانة التقليدية الأفريقية المنفتحين على تعاون من أجل إحلال المصالحة والعدالة والسلام. ومن المؤكد أنه لن يكون هناك سلام دون التعاون بين أتباع الديانات المختلفة.
1. الديانة التقليدية الأفريقية 25. بالنسبة للمسيحيين والمسلمين الأفارقة، تمثل الديانة التقليدية الأفريقية، غالباً، التربة الاجتماعية- الثقافية التي يمكنهم التفاهم انطلاقا منها. كما أنها، في الواقع، تمثل "السياق الديني والثقافي الذي منه جاء أغلب المسيحيين في أفريقيا والذي فيه يعيشون حتى الآن"[21]. باعتبارها ديانة تلمس كل جوانب الحياة، فهي غالباً ما تكون مصدراً منه تستوحى أساسياً كيفية فهم وعيش المصالحة والسلام والعدالة. بهذه الصفة، غالباً ما تكون الديانة التقليدية الأفريقية، بالنسبة للمسيحيين وللمسلمين الباحثين عن التفاهم والتعاون، جسراً حقيقياً.
26. في التقليد الديني والثقافي الأفريقي، تُفهم المصالحة غالباً كمسالمة وتناغم حياتي وجودي، كما أنها تعبر عن نفسها في الحالة الداخلية والخارجية التي يوجد فيها الإنسان. إنها غياب القسوة والخشونة، كما أنها صلاح خيري وفاعل، يعتني بمصلحة الآخر ويسهر عليها. وكذلك، ما من شك في أن صورة ما للعدالة الاجتماعية كانت أحد مشاغل المجتمعات التقليدية الأفريقية. تعتبر هذه العدالة، غالباً، استعدادا تناغمياً في امتلاك الخيرات اللازمة للحياة، وفي حمايتها وتوزيعها. ليست الممتلكات ممتلكات إلا بقدر ما تخدم ازدهار حياة الجماعة. ومع ذلك، لا يمكن أن يغيب عن النظر أن بعض الممارسات، مثل شعائر الوقاية من أضرار السحر، يمكنها أن تتسبب اليوم في تأثيرات عكسية، وأن تزيد الكراهية والانقسامات في المجتمع. من هنا تنبع ضرورة تفكير متعمق للتمييز، داخل الديانة التقليدية الأفريقية، بين كل ما يدفع إلى الأمام السلام والعدالة والمصالحة، وبين ما يناقض هذه القيم. في هذا المجال، تماماً كما في مجال الحوار مع الإسلام، توجد حاجة ما إلى تفكير مشترك يكون منطلقاً للعمل الرعوي.
2. الإسلام 27. نتناول هنا الإسلام من حيث علاقته بموضوع السينودس القادم: المصالحة والعدالة والسلام. يجب فهم الإسلام في نشاطه الحالي الذي له جوانب لا تبعث دائماً على الطمأنينة، مثل عدم التسامح الديني. بالإضافة إلى ذلك، فإن وقعه السياسي بالغ التنوع إلى الدرجة التي يصعب فيها تحديد أنماط واقعية عديمة الإلتباس للحوار الذي لا غنى عنه. وبالتالي، من الضروري التمييز بين بُعده السياسي وبُعده الديني، وفي داخل هذا البُعد الديني يجب أيضاً التمييز بين الإسلام والمسلمين بطريقة تشجع حوار الحياة. من هذا الجانب، يكون الإسلام غالباً شريكاً هاماً وصعباً[22]. شريك هام لأنه، معاً مع المسلمين، يستطيع المسيحيون عمل استراتيجيات لتعاون مثمر وسلمي في كل المجالات التي تتعلق بالمصالحة والعدالة والسلام، وتنمية حكم جيد في المجتمع، ولإيجاد موقف مشترك حول القيم التي تلمس الطابع العام لشعب ما.إن التفاني النزيه للرهبان والراهبات وشهادة حياتهم الدينية يستحوذان على استحسان كبير في الأوساط الإسلامية. في العديد من البلاد، أسس مسيحيون ومسلمون جمعيات من أجل الحوار وتنمية السلام والعدالة. وفي بعض الأماكن، توجد أيام صوم وصلاة مشتركة بين مسيحيين ومسلمين. تبرهن الخبرات الإيجابية في العلاقات مع المسلمين، في بعض مناطق أفريقيا، على أنه يمكن الاستمرار في الرجاء وفي الصلاة حتى يصبح مثل هذا التعاون أكثر عدداً وأكثر فاعلية. ومع كل هذا، لا يمكن أن ننسي أن هذه المهمة تتطلب هيكليات تعاون ذات فاعلية وصلاحية. يجبرنا الواقع على الإقرار بأنه، غالباً، ما تكون بعض المجموعات الإسلامية شركاء عسيرين إذ يعرقلون الممارسة المشتركة لهذه القيم.
28. في هذا الإطار، تظل آنية أمنية البابا يوحنا بولس الثاني: "إذا كان المؤمنون المسلمون يجدون فعلاً اليوم في بلاد ذات تقليد مسيحي التسهيلات الأساسية لقيام بمتطلبات دينهم، أتمنى بعمق أن يتمكن المسيحيون أيضاً من الاستفادة من معاملة مماثلة في كل البلاد ذات التقليد الإسلامي. لا يمكن أن تقلص الحرية الدينية إلى مجرد التساهل بالتغاضي. إنها واقع مدني واجتماعي، متناغم مع حقوق محددة تسمح للمؤمنين ولجماعاتهم بأن يشهدوا، دونما خوف، لإيمانهم بالله وأن يعيشوه في كل متطلباته"[23]. إن احترام مبدأ التعامل بالمثل شرط ضروري لكل تقدم في المصالحة والعدالة والسلام.
3. التعاون مع المسيحيين الآخرين 29. في الالتزام من أجل المصالحة والعدالة والسلام، لا يستطيع المسيحيون تجاهل صلاة ربهم ومعلم حياتهم: "فليكونوا بأجمعهم واحداً [...] ليؤمن العالم بأنك أرسلتني" (يو 17/21). إن الجوهر الأفريقي المشترك، الذي اغتنى بكلمة الحياة، هو خبرة مكتسبة لإمكانية البحث معاً عن الطرق والوسائل لجعل شهادتنا الإنجيلية أكثر مصداقية دائماً. كل مسيحي مدعو لتشجيع كل مبادرة من أجل الوحدة. الجهود المبذولة لإيجاد قواعد مشتركة لترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المحلية، والنضال المشترك لإحلال السلام والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وكذلك الالتزام المشترك في مختلف المساعي للمصالحة، ساهمت كلها في التخلص من الأحكام المسبقة المتبادلة. ومع ذلك، يجب القول بأنه لا يكفي الدافع البشري لإنهاء الانقسامات، فتستعاد عندئذ وحدة الكنيسة، إذ تتطلب هذه الوحدة تجديداً روحياً لفهم ماهية الوحدة الحقيقية للكنيسة. هكذا، فإن لحظات الصلاة المشتركة، مثل أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين، تكتسب أهمية قصوى. بصفتنا أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية، لا يمكننا إلا أن نكون مقتنعين بأنه فيها تتحقق الكنيسة في بنيتها الأساسية، كما نستمر في الصلاة حتى يهب الرب الإيمان في كل مكان، حتى إن هذه الصلاة تؤدي إلى تكوين كنيسة واحدة في المسيح. ستكون الجمعية الخاصة الثانية من أجل أفريقيا، لسينودس الأساقفة، كما نرجو، فرصة سانحة لعرض صورة شاملة للوضع الأفريقي، وللاستراتيجيات والأهداف الواجب تحديدها حتى تستطيع الكنيسة في القارة أن تستمر بفاعلية في السعي إلى ملكوت الله الذي هو مصالحة وبر وسلام وحب. في هذا السياق، يمكن للجوهر الثقافي الأفريقي أن يكون حليفاً من أجل الحوار مع المسيحيين الآخرين والديانات الأخرى سعياً لكرازة متعمقة، ولتنمية بشرية لا يمكن حدوثهما إلا بتجذر عميق في من هو سبب رجائنا في نهضة أفريقيا. لذلك، يطرح نفسه، في خاتمة هذا الفصل، السؤال الأساسي: اين يجب الذهاب للعثور على القوى والطاقات لمثل هذه النهضة؟
رابعاً: الإطار: إلى أين تذهبين يا أفريقيا؟ 30. ما الذي سيدعم الانقلابات السلوكية التي يقتضيها تغيير مصير أفريقيا، وإجراء المصالحة وسط هذا الكم من الأحقاد والانقسامات، وليسود أخيراً السلام والعدالة في أفريقيا؟ لأي المجالات، يجب إعطاء الأولوية للخيال لوضع علامات طرق المستقبل؟ كيف نعلن الإنجيل في أفريقيا التي تتسم بأحقاد وحروب ومظالم؟ كيف نواجه تجاوزات العولمة؟ كيف نظل أمناء لأمر الرب ونقدم مساهمة كنسية في تنمية المصالحة والسلام والعدالة؟ في مواجهة هذه التحديات، ليس للكنيسة-عائلة الله في أفريقيا من رد سوى رد سمعان بطرس: "يا رب، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟" (يو 6/68). تدعونا، إذاً، كل هذه الأسئلة إلى الانطلاق من المسيح ملء الحياة، مُصالحنا وسلامنا وبرنا، المسيح "رجاؤنا" (راجع 1 طيم 1/1)؛ إنه "سلامنا، فقد جعل من الجماعتين جماعة واحدة وهدم في جسده الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة" (أف 2/14). الكنيسة كلها مدعوة إلى التساؤل حول هذه الحقائق من إيماننا، وحول مغزاها، وخصوصاً حول تبعاتها بالنسبة لرسالتها، ألا وهي إعلان الإنجيل الذي هو يسوع المسيح، مصدر ملء حياتنا.
31. دون أن نترك نفسها لغواية الإطار الساذج الذي يمكن أن يوجد فيه حل ما سهل لكل هذه المسائل، تعترف الكنيسة-عائلة الله في أفريقيا بأن الحل هو شخص، ألا وهو يسوع المسيح! لهذا، تدعو الكنيسة مجدداً إلى استمرار الرجاء فيه، لأنه الوحيد القادر على أن يعطينا من جديد الكرامة والحرية الحقيقية. بإعادة تركيز فكرها وعملها على المسيح، وبالتعريف عليه وبمحبته، وبالمساعدة على الدخول إلى الإقتداء به من خلال خبرة مقابلة شخصية وجماعية به، تريد الكنيسة-عائلة الله في أفريقيا أن تشع بحياة الثالوث، وأن تحول التاريخ والمجتمعات الأفريقية بالمسيح وفي المسيح وللمسيح. في اللقاء مع الله الحي، الذي يجود بنفسه في يسوع المسيح، ستجد أفريقيا ملء الحياة الذي تصبو إليه. من خلال خبرة اللقاء معه وبها، يصبح إيماننا راسخاً مثل إيمان موسى الذي ثبت على أمره ثبوت من يرى ما لا يرى" (عب 11/27). مثل هذا الإيمان "يجتاز كل العقبات، حتى يستريح في حضن الحب اللامتناهي، الذي لا يستطيع إلا الحب"[24]. هؤلاء هم المحبة، والإيمان، والرجاء في يسوع المسيح، الذين تريد الجمعية الخاصة الثانية إنعاشهم في فكر وعمل أبناء وبنات الكنيسة في أفريقيا. الفصل الثاني يسوع المسيح، كلمة الحياة وخبزها، مُصالحنا وبرنا وسلامنا 32. "تعالوا إليّ جميعاً أيها المرهقون المثقلون، وأنا أريحكم" (متى 11/28). في هذه الكلمات، تجد الكنيسة-عائلة الله في أفريقيا دعوة للثقة ولإلقاء الشباك في العمق، لأنها ومنذ الجمعية الخاصّة الثانية من أجل أفريقيا لسينودس الأساقفة، قد اختارت تفضيل الفقراء. لقد أظهرت بذلك أن الوضع اللإنسانيّ والذليل الذي يصيب الشعوب الأفريقيّة يجعلها أمام أزمة (crise)، بالمعنى الأصلي لكلمة "حكم = jugement"، وأمام تحدٍ: أزمة التوبة والقداسة والنزاهة، وتحدي تطوير كل الطاقات الكامنة في رسالة الإنجيل بخصوص التبني الإلهيّ، بهدف تحرير الشعوب الأفريقيّة من الخطيئة ومن "بُنَى الخطيئة"[25]، من هذا العبء الثقيل الذي تنؤ به كواهلهم. تدعونا هذه الأزمة وهذا التحدي إلى تصويب أنظارنا إلى من هو حياتنا وتحريرنا: يسوع المسيح!
أولاً: كلمة حياة أفضل 33. تعلن لنا الرسالة إلى العبرانيين "أن الله، بعدما كلم الآباء قديماً بالأنبياء مرات كثيرة بوجوه شتى، كلمنا في آخر الأيام هذه بابن له جعله وارثاً لكل شيء وبه أنشأ العالمين" (عبرانيين 1/1-2)[26]. هذا الابن الذي به يكلمنا الله، هو نفسه الكلمة الذي صار جسداً: إنه البرهان الأسمى على فعالية كلمة الله كما يشهد النبي: "كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي: لا ترجع إليّ فارغة بل تتم ما شئت وتنجح فيما أرسلتها له" (أشعيا 55/11). بصيرورته جسداً، أصبح الكلمة أصل كياننا وفعلنا، وبه أيضاً، ولدنا الله إلى حياة جديدة، شرط أن نقبله لأنه، لمن قبلوه، "فقد مكنهم أن يصيروا أبناء الله" (يوحنا 1/12). إذاً، إنطلاقاً من الكلمة، يجب أن نفهم التقاليد الأفريقيّة، وأن نصحح ونضبط رؤيتها للحياة وللإنسان وللعائلة. يسوع المسيح، كلمة الحياة، هو ينبوع حياتنا وتمامها.
34. في التقليد الأفريقيّ، ترتبط الكلمة بالحياة ارتباطاً حميماً. الكلمة فعالة بطريقة تحدر إلى الموت أو تعطي الحياة. كلمة الله المتجسد يضطلع بالمعنى المقدّس الذي كان للكلمة في التقاليد الأفريقيّة ويسمو به لجعل الكلمة خلاصية، إذ يجردها من الموت، حتى لا يهلك أحدا. ولكن، حينما نرى يصبح الشعب الأفريقيّ ألعوبة بواسطة كلمة تحتكرها الإذاعة والتلفزيون والخطب السياسيّة، يمكننا القول بأنها أصبحت مميتة وبئس الموت، بينما نجد أن إنجيل يسوع المسيح قد ارتقى إلى ما لا نهاية بطابعها المقدس والمحيي. والحال أنه، في مسار أغلب تقاليد أفريقيا والجزر المتاخمة لها، يتوجّب أن تكون الكلمة تأويلاً صحيحاً للعالم. على هذا العنصر الثقافيّ والدينيّ أن يسمح لنا بفهم أفضل لمعنى الكيان الجديد الذي دشنه من هو الكلمة المثلى، وبالتالي، مَن مِنه تنبع، من الآن فصاعداً، كل حياة. هذا يتطلب من المسيحيّ تآلفاً مع هذه الكلمة حتى تصبح واقعاً ملموساً في حياته اليوميّة. من هنا أهمية أن يعرف المسيحيّ هذه الكلمة، معرفة ليست عقلانية بحتة أو أكاديمية أو بطريقة "ما يُقال"، ولكن معرفة تنطلق من لقاء شخصيّ مع المسيح الذي يكلمنا في الكتب المقدّسة. من العاجل أن تصبح جماعاتنا المسيحيّة أكثر فأكثر أماكن لإصغاء عميق لكلمة الله، ولقراءة مصلية للكتب المقدّسة، كما يذكرنا قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر: "قراءة الكتاب المقدّس هي صلاة، ويجب أن تكون صلاة، يجب أن تنبع من الصلاة وتصب في الصلاة"[27]. هكذا، في هذه القراءة المصليّة والجماعيّة ككنيسة، يقابل المسيحيُّ المسيحَ القائم من بين الأموات الذي يتحدث إليه ويعطيه مجدداً الرجاء في ملء الحياة التي يهبها للعالم. بموته وقيامته، يترسخ كون يسوع ينبوع وتمام كل حياة: إنه مبدأ كل حياة جديدة، لأن فيه وبه، يعطي اللهُ العالمَ كلمة الحياة، ويُصالح، منذ الآن، كل الكائنات محققاً "السلام بدم صليبه" (كول 1/20؛ راجع كول 1/18 وما بعده)، ومبرراً الجميع. هذا التبرير وهذا السلام يعطينهما، على مر الأزمان، في الخبز المكسور، الذي يجعل كلمته ملموسة فينا، إذ يجعلها جسداً مع جسدنا، وجسماً مع جسمنا، حتى ما إذا أتحدنا به، نعكس نوره ووجوده في العالم، ونعطي للعالم مذاقاً إلهيّاً.
ثانياً: خبز الحياة 35. في الواقع، بواسطة الخبز المكسور، "يجعل المسيح سر موته وقيامته حاضراً على مر الزمان"[28]. في الخبز المكسور، يُعطي يسوع «ذاته باعتباره "الخبز الحي الذي نزل من السماء" (يو 6/51)، ويُعطي لنا معه عربون الحياة الأبديّة الذي بفضله نذوق مقدماً الوليمة الأبديّة لأورشليم السماوية»[29]. في هذه المأدُبة الفصحيّة، يحضر الله نفسه إلى ملاقاتنا، يأتي باحثاً عنا يومياً في ظروفنا العادية، ليتحدنا في سر عطية حبه، فيستبق بذلك الإتحاد النهائيّ به. توجهنا الإفخارستيّا نحو المستقبل، نحو المجيء الأخير للمسيح. إنها تصوب أنظارنا نحو انتظار عودة الربّ، وهذا الانتظار يدخلنا في حركة انطلاق ويعطي لسيرنا في التاريخ نفحة الرجاء. ومع ذلك، فالمسيح الذي ننتظره ليس غائباً عن التاريخ، لأن الإفخارستيّا تجعله حاضراً حقاً. في واقعية جسده ودمه، بالتحول الجوهريّ، يجعل المسيح ذاته حاضراً لحياتنا[30]، محققاً وعده بأن يكون معنا كل أيام حياتنا وإلى نهاية العالم (راجع متى 28/20)، ويرسلنا إلى واقعنا اليوميّ حتى نستطيع ملئه بحضوره الذي يبرز من لقائنا معه. إن هذه الصلة الحميمة المتبادلة معه هي التي تسمح لنا بأن نستبق، بشكل ما، عيش السماء على الأرض. في الإفخارستيّا نجد التأكيد على كون الحياة علاقة شراكة مع الله، مع إخوتنا وأخواتنا، ومع كل الخليقة. الإفخارستيّا تجعلنا كنيسة، أي علامة وأداة لحبه الذي يغير العالم.
36. في السياق الاجتماعيّ-السياسيّ والاقتصاديّ الحالي للقارة الأفريقيّة، هل هناك في الواقع، ما هو أكثر مأساوية من الصراع، الذي يكون غالباً دموياً، من أجل الحياة والبقاء؟ وإذا كانت الجمعية الخاصة الأولى من أجل أفريقيا، عام 1994، قد شددت على الكنيسة-عائلة الله، فماذا ستكون إضافة هذا المفهوم لبناء أفريقيا المتعطشة إلى المصالحة، والساعية إلى العدالة والسلام؟ الحروب العرقيّة أو الإقليميّة، المجازر والإبادات الجماعيّة، يجب أن تستجوبنا على وجه خاصّ: إذا كان صحيحاً أنه في يسوع المسيح ننتمي كلنا إلى نفس العائلة ونتقاسم نفس كلمة الحياة ونفس خبز الحياة، وإذا كان صحيحاً أن نتشارك نفس الحياة، لأن نفس ذات دم المسيح يجري في عروقنا فيجعلنا أبناء الله، وأعضاء عائلة الله، فعندئذ لا يجب أن تكون هناك من بعد أحقاد ومظالم وحروب بين الأخوة. من هنا تنبع ضرورة التعميق والتجسيد الحياتي لماهية سر كنيسة-عائلة.
الفصل الثالث الكنيسة، سر المصالحة والعدالة والسلام في أفريقيا 37. بتعريف نفسها "كنيسة-عائلة"، تقصد الكنيسة في أفريقيا أن تذكر الجميع بأنهم إخوة وأخوات (راجع متى 23/8)، وإن عليهم جميعاً واجب البحث، في كل شيء، عما يساهم في بناء الإخوّة والسلام (راجع رومية 14/19) والعدالة. في تدبير الله، ليست الكنيسة وسيلة يمكن أن تسخيرها لأي إيديولوجية. على العكس، إنها، ضمن سر توصيل حب الله إلى البشر، العلامة والأداة[31] لشراكة العائلة البشرية مع الله ذاته، وللشراكة بين البشر ومع الخليقة كلها. إنها تحمل في داخلها كلمة الحياة وخبزها، كلمة الحب وخبزه.
أولاً: الإطار الكرازيّ لقبول الكنيسة-عائلة الله في أفريقيا المعاصرة 38. إن معنى الإخوّة، التي تتجاوز حدود الأسرة الخاصة والقبيلة الخاصة أو العرق، هو قيمة متجذرة حقيقةً في الأوساط الأفريقيّة؛ وهو ينبوع إلهام لسلوكيات تضامن دفعت بالكثيرين إلى حد الموت لأنهم رفضوا المشاركة في العنف الذي مارسته جماعاتهم ضد آخرين، أو لأنهم قاموا بحماية أو بدفاع عن أُناس حكمت عليهم جماعاتهم بالإبادة.
39. في هذا التقليد (الأفريقيّ) الذي يتميز بقدسية الحياة، وبالإخوّة وبمعنى الكلمة، يتموقع تعريف الكنيسة كعائلة الله. إنها مكان الإخوّة، لأنها تقبل ذاتها من المسيح ملء الحياة، الأخ البكر (القائم) من بين الأموات؛ ولأنها تقتات بالكلمة الحية للآب الأزلي. ونظراً لكونها أم تلدنا، في المعمودية، للحياة في الله، يتوجب على الكنيسة أن تكون المكان الأمثل للحياة وليس للموت.بفضل دمه المسفوك الخارج من جنبه، على الصليب، يجعلنا يسوع إخوة وأخوات متحدين منذ الآن برباط دمه الذي، من خلال الإفخارستيا، يجري في عروقنا. إن الحياة التي نقبلها في المعمودية، والتي على كلٍ منا بدوره، أن ينميها من خلال المشاركة في الأسرار وخصوصاً الإفخارستيا، يجب أن تكون هذه الحياة للجميع، وأن يتأملها الجميع كعطية مقدسة، وبالتالي يجب احترامها وحمايتها. وبما أن دم المسيح نفسه، منذ الآن، يجري في كل منا، ويجعلنا كنيسة-عائلة الله في جسد ودم المسيح، لذلك فسفك دم الأخ هو سفك دم الذات، دم المسيح، أي قتل حياته فينا. لا يجوز لأحد أن يتطاول على الحياة، لأن الله وحده هو سيدها، ونحن كلنا نتقبلها منه، ويتوجّب علينا أن نستودعها بين يديه. تؤكد الإفخارستيا على هذا الطابع المقدس للحياة، وعلى مسؤوليتنا تجاهها.
40. إن رسالة كنيسة تريد نفسها عائلة الله في أفريقيا، لا يمكن، من الآن فصاعداً، أن تُفهم إلاّ انطلاقا من هذا التواصل للحياة، ومن الوحدة-الإخوّة التي تنبع من السلام الذي يمنحه لنا دم المسيح المسفوك من أجلنا. يتردد صدى إعلان هذا السلام للشعوب التي تمزقها الصراعات والحروب، منذ الآن في قلوبنا على النحو التالي: "أنتم جميعاً إخوة" (متى 23/8)، فأوقفوا الحرب! بهذا نلحق أحد التصاريح الأساسية للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي يقول: "إن النشاط الإرسالي له صلة وثيقة أيضاً بالطبيعة البشرية ذاتها وبأمانيها"[32]، كما يُحدد أن "الإنجيل [...] لا يزال دوماً بذاته خمير أخوة ووحدة وسلام"[33]. وبالتالي، فما من أحد يستطيع أن يُسر بتدمير، وبقتل أخته أو أخيه، ويسلب عائلته الخاصة ويحرمها من قواها الحيوية الضرورية.من ثمّ، بالتموقع داخل إطار سر الكنيسة-عائلة الله ، يمكننا القول بأنه إذا كانت أفريقيا مصابة بالفقر والفساد والظلم والعنف، فعلى الكنيسة أن تكون جماعة تُعالج وتُصالح وتُسامح وتُشجع، أي باختصار، كنيسة مُبشرة ومُلتزمة في مجال التنمية الإنسانية، كما يذكرنا بذلك بحق قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر إذ يقول: "الكنيسة هي عائلة الله في العالم. في هذه العائلة، ليس على أحد أن يُعاني من نقص ما هو ضروري"[34]. ينتظر من الجمعية الخاصة الثانية أن تسمح لنا بزيادة الوعي بهذه الصلة الوثيقة بين الرسالة والتنمية الإنسانيّة، وبترجمة التعليم الاجتماعيّ للكنيسة في الحياة اليوميّة.
ثانياً: التعليم الاجتماعيّ للكنيسة ورسالته الكرازية 41. بالنسبة للكنيسة-عائلة الله في أفريقيا، تعتبر الصلة بين الرسالة الكرازية والتنمية الإنسانية صلة لا تنفصم بين كيانها ورسالتها[35]، باعتبار أن ما تعلنه من خلاص في يسوع المسيح يتعلق بالإنسان في شموليته. بالنسبة للكنيسة، "الكرازة هي العمل على تنمية الإنسان في كل أبعاد دعوته كابن لله"[36]. تصبح هذه الصلة ملموسة من خلال أعمال التزام من أجل التنمية الإنسانية مثل: التربية والصحة ومساعدة المحتاجين ومشاريع التطوير والدفاع عن حقوق الإنسان والالتزام بالعمل على قيام الديموقراطية ودولة القانون. الفصل بين التنمية الإنسانيّة والمحبة الإنجيليّة هو إنكار وحدة الالتزام الإنسانيّ العميقة الذي فيه تظهر الهوية الصميمة للمسيحي.
1. بعض المبادئ الأساسيّة للتعليم الاجتماعي للكنيسة أ) الأساس اللاهوتي والانتروبولوجي 42. من خلال تعليمها الاجتماعي، تحقق الكنيسة بأمانة رسالتها الخاصّة ألا وهي أن تكون في العالم انعكاساً لحب الله لكل شخص بشريّ. في إعلان الإنجيل وتأوينه، "تشهد (الكنيسة) باسم المسيح، بكرامة الإنسان الخاصة وبدعوته في شراكة البشر، وتعلمه متطلبات العدالة والسلام المطابقة للحكمة الإلهية"[37]. بفضل تعليمها الاجتماعي[38]، تعبر الكنيسة عن قربها من الإنسان، باعتباره كائناً علائقياً. وهي تكشف للإنسان عن كونه كائناً روحياً وجسدياً، في علاقة مع الله ومع إخوته وأخواته في الإنسانية، ومع كل المخلوقات الأخرى. إذاً، فالإنسان، باعتبار بعده التاريخي، هو في قلب تعليم الكنيسة الاجتماعي[39] الذي يتلقى توجهاته انطلاقا من مبدأ كرامة الشخص البشري[40].
43. عن الإنسان وواقعه الأرضي، دار الحديث في الصفحات الأولى من الكتاب المقدس. فمنذ البدء، أُقيم الإنسان، المخلوق على صورة الله (راجع تكوين 1/27)، كحارس على الخليقة (راجع تكوين 2/15؛ مزمور 8؛ حكمة 9/1-5؛ سيراخ 17/1-4). مهمة الحارس هذه تسير كصنو مع واجب زراعة الأرض. من ثمّ، يكون العمل علاقة منها ينطلق الإنسان في مهمته كحارس. وهكذا، يستطيع القديس بولس أن يوصي أهل تسالونيكي: "أن تطمحوا إلى أن تعيشوا عيشة هادئة وتشغلوا بما يعنيكم وتعملوا بأيديكم كما أوصيناكم" (1 تسالونيكي 4/11؛ راجع أفسس 4/28؛ 2 تسالونيكي 3/10). التشديد هنا على العمل، ليس لكونه ضرورة ووسيلة لضمان قوتَه وقوت الآخرين، بل أيضا بكونه ما يُعطي الإنسان كرامته، وبالتالي ما يُحرره ليحرس الخليقة ويتمتع بثمارها (راجع 2 طيموثاؤس 2/6). في نفس الوقت، تلفت النصوص المقدسة نظرنا إلى عرضيّة الأمور الأرضيّة (راجع 1 طيموثاؤس 6/6-10؛ 1 كورنثوس 7/29-31). انطلاقا من هذا الإطار الإسكاتولوجي، يمكن قياس وتقييم كل الأمور الأرضيّة، وعلاقة الإنسان بها.
ب) بعض المبادئ الأساسيّة 44. في قلب مهمة الحارس هذه، وفي واجب العمل والتمتع بثمار عمله، تُشدد النصوص المقدسة على تضامن كل الخليقة كمبدأ أساسي يكفل الوحدة والعدالة والسلام. يذكرنا القديس بولس بأن الكل مدعوون لأن يضعوا ممتلكاتهم الخاصة تحت تصرف الآخرين[41]. لا يتعلق الأمر بانتزاع ملكية البعض، بل بالسهر على أن يظل جارياً ومقبولاً، في قلب الخليقة، مبدأ المساواة (راجع 2 كورنثوس 8/13-15)، وأن الوفرة التي يتمتع بها البعض تعوض ما ينقص الآخرين. يتوجب أن تسهر مثل هذه المشاركة على ألا تشجع ظاهرة التطفليّة، وإنما على خلق ثقافة حقيقيّة للعمل والتضامن. يرتبط مبدأ التضامن هذا بعلاقة حميمة مع مبدأ "خيرات الأرض لجميع الناس": "لقد أعد الله الأرض وكل ما تحتويه لمنفعة جميع الناس وجميع الشعوب، بحيث يجب أن تتدفق كل الخيرات المخلوقة إلى الجميع، طبقاً لقواعد العدالة، المصحوبة حتماً بالمحبة"[42]. يقع هذا المبدأ في أساس الحق في استخدام الخيرات، إذ يتوجب أن تتوفر لكل كائن بشري إمكانية التمتع بالحياة الكريمة لملء نموه. تتطلب إتاحة الخيرات للجميع جهداً لكي تتوفر، لكل شخص ولكل الشعوب، الظروف الضرورية من أجل تنمية كاملة. ومن ثمّ، تعتبر الكنيسة حق الملكية الخاصة خاضعاً لحق الاستخدام العام ولمبدأ إتاحة الخيرات للجميع[43]. القصد من ذلك هو التشديد على وجوب أن يعتبر الإنسان الخيرات التي يمتلكها ليس كملكية خاصة فحسب، بل أيضاً كملكية عامة، بمعنى أنها يمكن دائماً أن تكون مفيدة أيضاً للآخرين[44]. عن طريق إتاحة الخيرات للجميع، تؤكد الكنيسة على خيارها التفضيلي للفقراء[45]، هذا الخيار الذي يُحمّل كل مسيحي مسؤولياته الاجتماعية من حيث كونه شاهد على أولوية محبة المسيح. وهذا ينطبق أيضاً على صعيد الخيرات الثقافية.
45. ينبغي أن تُوضع المعارف التقنيّة والعلميّة الجديدة في خدمة الحاجات الأوليّة للإنسان. تضم الكنيسة في أفريقيا صوتها إلى صوت البابا يوحنا بولس الثاني مطالبة بوضع نهاية "للحواجز وللاحتكارات التي تُبقِي شعوباً كثيرة على هامش التنمية، لـتأمين الظروف الأولية التي تسمح لكل الأفراد ولكل الأمم بالمشاركة في التطور"[46]. ومع ذلك، فلا تنكر الكنيسة حق الملكية الخاصة التي تضمن للشخص البشري الحيز الضروري لاستقلاليته الشخصية والعائلية، والتي يمكن اعتبارها امتدادا لحريته الإنسانية. إنها حافز لمعنى الواجب والمسؤولية[47]، ومع ذلك، فلا يجب اعتبارها ملكية مطلقاً لأنها نسبيّة بالقياس إلى الخير العام.
46. يمكن فهم الخير العام على أنه البُعد الاجتماعي والجماعي للصالح الأخلاقي. وكما أن الفعل الأخلاقي للشخص يتحقق في عمل الخير، كذلك يصل الفعل الاجتماعي إلى كماله بتحقيق الخير العام[48]. ترجع مسؤولية الخير العام ليس إلى الدولة فحسب، بل أيضاً إلى الأفراد. ينبغي على الدولة أن تضمن تلاحم ووحدة وتنظيم المجتمع، الذي تعبر عنه، بطريقة تسمح لكل مواطنيها بالمشاركة في الخير العام. من هذا المنطلق، يتوجب على الدولة تنسيق مختلف المصالح الجزئية وتحكيم المخاصمات طبقاً للقوانين. النظام العادل للمجتمع وللدولة هو الواجب الأساسي للعمل السياسي[49]. ومن أجل تحقيقه، من المهم أن يحترم البعد السياسي، بل ويُجبر على احترام، القيم الأساسيّة للحياة الاجتماعية مثل أسلوب الحكم الجيد، والحقيقة، والحرية، والعدالة.
47. تتطلب إقامة مثل هذا النظام تعاوناً ومشاركةً من كل مكونات المجتمع. لهذا السبب، تُلح الكنيسة على احترام مبدأ "الدعمية والعونية = subsidiarité" الذي بمقتضاه ينبغي على كل مستويات الإدارة العليا اتخاذ موقف المساندة والدعم والتنمية والعون تجاه المستويات الأدنى. بهذا المبدأ تقول الكنيسة أنه إذا كانت الدولة تُريد تنمية كرامة الشخص البشري، فعليها تشجيع ومساندة وتنمية وتطوير "المبادرات التي تأخذها مختلف القوى الاجتماعية والتي تجتمع فيها التلقائية والقرب من البشر المحتاجين إلى المساعدة"[50]. على أساس هذا المبدأ، تُعارض الكنيسة كل صورة تطرف للمركزية وللبيروقراطية ولوجود الدولة وللجهاز الإداري. وفي الاتجاه المضاد، يمكن ملاحظة أنه في بعض البلاد الأفريقية، هناك غياب كامل لدولة ضامنة لحماية الممتلكات والأشخاص، وقادرة على دعم وتنمية المبادرة التي تطلقها القاعدة. تُعتبر المشاركة، وبحق، إحدى نتائج مبدأ الدعمية والعونية. إنها تعبر أساساً عن نفسها "من خلال سلسلة أنشطة يستطيع من خلالها المواطن، فردياً أو متضامناً مع آخرين، أن يساهم في الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للجماعة المدنية التي ينتمي إليها"[51]. ما من مواطن يستطيع التنصل من هذا الواجب، واجب المشاركة. كما أن الكنيسة، إذ تعتبر أفراح شعب الله والآمه أفراحها والآمها، لذلك لا تستطيع التنصل من واجب المشاركة هذا.
2. بعض التجارب التي ينبغي التغلب عليها 48. في هذا الإطار، لا يغيب عن نظر الكنيسة أن المؤمنين الذين يكونون كنيسة اليوم هم أيضاً موسومون بروح العصر؛ إنهم يشاركون أفراح والآم البشر المعاصرين[52]. لذلك، فتحقيق رسالة الكنيسة، أي إعطاء شكلاً ملموساً لملكوت الله في التاريخ، يتطلب منها هذا التضامن مع كل الخليقة، ولكن، قبل كل شيء، يتطلب توبة مستديمة. على مثال المسيح، لن نكون أمناء على هذه الرسالة إلا بالقيام بتوبة مستمرة إلى الآب، مصدر كل حياة حقيقية، والوحيد القادر على أن ينجينا من الشرير ومن كل تجربة، وأن يحفظنا في روحه، حتى في صميم الجهاد ضد قوى الشر.
49. حسب إنجيل لوقا، لا يمكن أن يغيب عن أنظارنا أن التجربة الأولى هي تجربة تحويل الحجارة إلى خبز (راجع لوقا 4/1-4). بالتزامنا بمكافحة الجوع، لا يجب أن نترك أنفسنا نضل عن المسار الأصلي، ألا وهو المسيح خبز الحياة الحقيقي. بسبب الضيقات، إذ نركز الانتباه على غد أفضل يختفي منه العوز والصراعات والانقسامات والعنف، لا يجب أن ننسى الإصغاء إلى ما من ِشأنه أن يكون شكلاً أسياسياً لكل تحرير حقيقي: نداء يسوع إلى التوبة (راجع متى 4/17). لا يجب السقوط في تجربة مسيانية تُقصي الأزمة، مثل السحر، كما لو كان الاقتصاد وما يفترضه من عمل، وما يقتضيه من ابتكار، ليست إلا عوارض بائسة لحالنا البشري. نأمل بأن تكون الجمعية الخاصة الثانية وقتاً حثيثاً للتفكير لإيجاد سبل ووسائل لتنشيط اقتصادنا، ولخلق ثقافة حقيقية وقوية للعمل المتقن.
50. تُذكّر التجربة الثانية (راجع لو 4/5-8) بعلاقتنا بصيرورة أفريقيا: البعد السياسي. في رد يسوع على هذه التجربة يَظهر نقدُ للبعد السياسي، ألا وهو ادعاءه أن يكون الوسيط الحصري للتحرير، وبالتالي إقامة نفسه في وضع مطلق، فيقصي بذلك كل بعد ديني. لا تستطيع الدولة، في الواقع، أن تتجاهل الدين، ولا أن تريد التخلص منه. إن تحقيق المجتمع العادل لا يمكن أن يتم في غياب أحد مكوناته: الحب. كما يذكرنا قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر بأن كل من تسول له نفسه التخلص من الحب، ينتهي به الأمر إلى التخلص من الإنسان نفسه[53]. رجل السياسة الأفريقي، هو أيضاً، غير معفي من هذه التجربة. تُلاحظ عند الكثيرين من رجال السياسة النزعة إلى تجاهل الدين أو إرادة التخلص منه، وبدلاً من الاهتمام بحقيقة الله، تصبح أصنامهم هي المهمة. علماً بأن الأصنام لا تمتلك إلا سلطاناً وهمياً أو مجرد جاذبية، وليس لديها هاجس الاهتمام بالكائن البشري، لأنها لا توجد إلا بفضل رغبة السياسي المنحرفة أو الفاسدة. ضامن الحياة هو واحد، وهو ليس صنماً، لكنه الله الحق. لذلك ينزع يسوع الألوهية عن البعد السياسي، ويندد به كتجربة كبرى، ثم يعطيه بعده الحقيقي بأن يكون الموجه المفضل لتاريخ متصالح. فالمصالحة، قبل كل شيء، هبة تأتينا من الله، الوحيد الذي يعمل في أعماق القلوب. موقف المسيحي، تجاه تجربة البعد السياسي الذي يميل إلى تنصيب نفسه سيداً على الحياة، لا يمكن إلا أن يكون موقف الملوك المجوس (راجع متى 2/12 و16-18) الذين يتضامنون مع الطفل يسوع وعائلته، ويلتزمون بحماية حياته مهما كان الثمن. بنفس الأسلوب، يعارض المسيحيون السحرة والساحرات المعاصرين الذين يزرعون، في كل مكان في أفريقيا، بذور البؤس والموت، بأسلحتهم الإجرامية. يتقبل المسيحي، بالمعمودية وبالإفخارستيا، حياة الله ويلتزم بأن ينميها في ذاته، طبعاً، ولكن أيضاً بأن يتركها تنمو في الآخرين. هذا القبول لحياة المسيح فينا يجب أن يقودنا إلى مقاومة كل بلاغ وكل سلطة مناوئة للحياة. إن ذبح الأبرياء في زمن يسوع، الذي حماه المجوس بطريقة سلمية، كان نتيجة لذاك القرار الدموي الذي أتخذه هيرودس. ومنذ ذلك الوقت، كم من شهيد، من الرجال والنساء، في تاريخ المسيحية، دفعوا بحياتهم ثمن هذه المقاومة النابعة من الأمانة للإنجيل ولشخص المسيح؟
51. عن هذا الأمر يشهد أيضاً التاريخ الحديث لأفريقيا. نفكر، ليس فقط في الشهداء، مثل شهداء أوغندا الطوباويين انواريتي نينجابيتا وإيزيدور باكنجا، بل أيضاً في بعض شهود الإيمان مثل الطوباوي قبريانوس ميخائيل أيوين تانسي وخادم الله جوليوس نيريري وفي كل هؤلاء المسيحيين العديدين الذين عانوا من السجن والتعذيب والحرمان من ممتلكاتهم بسبب الإنجيل. كيف لا نذكر أيضاً كل ضحايا التاريخ الحديث في بلادنا، هؤلاء الرجال والنساء الذين بَعثرت أشلاؤهم بقسوة رصاصاتُ هذا الطاغية أو ذاك، من الأفارقة والأجانب، والذين كانت جريمتهم الوحيدة هي المطالبة بالسلام، وبالمزيد من العدالة والكرامة الإنسانية لمواطنيهم المقهورين. غالباً ما يكون المسيحيون هم الذين يأخذون على عاتقهم نصيباً نشطاً في تنظيم المصير السياسي والاقتصادي لشعوبهم. وليس من النادر في الواقع، أن يكونوا، هم أيضاً، سبباً لانقسامات وحروب عرقية وفساد وشرور أخرى تُهيج القارة. بهذا الفعل، لا يخونون إنجيل المسيح فحسب، بل يحتقرون أيضاً تقليد أجدادهم الذي يُريد أن يجتهد كل إنسان في تأمين نمو حياة كل فرد والجماعة كلها. كيف السبيل إلى المحافظة على حيوية دائمة للضمير، بما أن طبيعة رسالة الكنيسة تتطلب منها الوحدة والأمانة لتعليم المعلم؟
52. تكشف التجربة الثالثة (راجع لوقا 4/9-13) عن أسباب الأوهام الاقتصادية والسياسية: استخدام القدرة الإلهية لأهداف تتعارض مع مشيئة الله وعمله بخلق إلوهية ما على مقياس رغبة الإنسان. على العكس تماماً، فالمنطق المسيحي هو أن يتساءل عن مصير الإيمان في هذا العالم: فالملكوت حاضر، وينبغي أن نعاينه ونختبره هنا والآن. لهذا، أعلن الإرشاد الرسولي عالياً وقوياً أنه: "من المستحيل قبول أن العمل الكرازي يمكنه أو يجب عليه إهمال المسائل بالغة الخطورة، الفاعلة حالياً، والمتعلقة بالعدالة والتحرير والتنمية والسلام في العالم"[54]. كيف يمكن، عندئذ، أن نفهم حلول الملكوت كمصالحة وعدالة وسلام؟ الجمعية الخاصة الثانية هي فرصة سانحة للتفكير وللعثور، في هدى نور الروح، على الطرق والوسائل اللازمة لشهادة مسيحية مثمرة وفعالة في عالم السياسة والاقتصاد في أفريقيا. إن أفضل عمل لهذين المجالين يعتمد كثيراً على قدرة الأفارقة على التصالح وعلى إحلال السلام والعدالة. وهذا أمر عاجل بصفة خاصة، لأن الوضع الحالي، في ما يتعلق بالمصالحة والعدالة والسلام في غالبية البلاد الأفريقية، يمكن وصفه بأنه باعث على القلق في بعض البلاد، ومفجع في بلاد أخرى. شهادة كنيسة تعكس نور المسيح على العالم 53. مهمة الكنيسة هي إعلان بشرى الخلاص السعيدة، خلاص يحرر الإنسان، كل الإنسان، الإنسان في كل أبعاده الروحية والأخلاقية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. هذه هي المهمة الواقعة على عاتق الكنيسة-عائلة الله في أفريقيا. إنها مهمة تستجوب كل أعضاء الكنيسة، كلاً على مستواه وفي وسطه الحياتي.
أولاً: الكنيسة في بعدها الهيرارخي وشهادتها في العالم 1. دور الأسقف والمجالس الأسقفية 54. بما أن الأسقف هو الراعي الأول للكنيسة المحلية، فيقع على عاتقه أن يكون أول من يتحمل هذه المسؤولية، ويسهر على إيجاد النهج والمواقف اللازمة للتعليم، ولتنفيذ هذه الرسالة التعليمية والرعوية. يتطلب هذا منه إن عليه إظهار تضامن أكبر مع الشعب، ووعي أكثر بالمشاكل التي تؤثر على حياة شعب الله الموكول إليه[55]. يتوجب عليه أيضاً إبداء إرادة حقيقية لإيجاد حلول لهذه المشاكل، والكشف عن أسبابها الحقيقية. كما ينبغي عليه أن يكون دائماً مستعداً لاتخاذ موقف حينما تُنتهك الحقوق الأساسية للإنسان. وعليه أيضاً، مستلهماً التعليم الاجتماعي للكنيسة، أن يُطالب الطبقة السياسية باحترام مبادئ حسن الحكم. وبالتالي، يجب أن يكون لديه هاجس تكوين مسيحيين قادرين على تجاوز الانفصالية بين الضمير الفردي والانتماء إلى الجماعة. على الأسقف أن يقوم بالمصالحة دونما إنحياز. في خضم الصراعات التي تضرب أفريقيا، يجب أن تكون الكنيسة حكماً لا يشك في نزاهته. لذلك، ينبغي أن تكون مواقف الأسقف محايدة تجاه السلطة السياسية والإيديولوجيات مختلفة التكوين ذات الطابع السياسي أو العشائري. ستسمح له مثل هذه النزاهة بأن يكون في موقع مناسب ليندد بتجاوزات نفس هذه السلطة، وبالتلاعب بالشعب الذي يقوم به بعض رجال السياسة، وليدافع بكل طاقته عن صغار القوم الذين يرقبون عاجزين حقوقهم تداس بالأقدام.
55. داخل الإطار الجماعي، بالتضامن مع إخوته في الأسقفية، يكتسب عمل الأسقف فعاليته. الوحدة داخل المجلس الأسقفي هي ذات أهمية قصوى، خاصة في أوضاع أزمة اجتماعية وسياسية. تعطي هذه الوحدة لعمل الكنيسة مصداقية، وتجعلها واعدة بمستقبل أفضل. لا تقتصر مثل هذه الوحدة على داخل بلد ما، إذ يجب أن تميز هذه الوحدة العلاقات مع باقي المجالس الأسقفية، على صعيد المنطقة أو على صعيد القارة. يتطلب هذا الأمر أن يتوفر لدى كل أسقف حس كنسي عميق وأصيل، وأمانة دائمة للإنجيل في البحث عن حلول للمشاكل العامة.
56. يجب على المجالس الأسقفية إعادة تنشيط مختلف لجان "العدالة والسلام" وتفعيلها وتزويدها بكل الوسائل الضرورية، مما يسمح لها بأن تلعب دورها بفعالية. يتوجب أيضاً أن تصبح هذه اللجان أماكن لدراسة المشاكل التي تواجهها المجتمعات الأفريقية، حتى تساهم لاحقاً في إيجاد حلول كافية لها. من هنا ضرورة قيام الأساقفة والمجالس الأسقفية بمهمتي التوعية والتدريب على كيفية التباحث حول مشاكل المجتمع على نور كلمة الله والتعليم الاجتماعي للكنيسة والرسائل البابوية التي نذكر منها على سبيل المثال تلك الخاصة باليوم العالمي للسلام. كل هذا يتطلب تحضيراً جيداً للمساعدين الرعويين للقيام بهذه المهمة. في هذا الإطار، على كل مجلس أسقفي صياغة نشاط رعوي خاص للرد على متطلبات مختلف الفئات التي يتكون منها المجتمع: القوات المسلحة، والحركات المسلحة، والميليشيات، ورجال السياسة والفكر والموظفون، واللاجئون في الخارج، والمهجرون داخل البلد. ونظراً للدور الذي تقوم به هذه الفئات، أو هي مدعوة للقيام به، لكي يحل السلام والعدالة في أفريقيا، من الضروري على الإطلاق، أن تصبح هذه الفئات، من الآن فصاعداً، في مركز اهتمام رعاة الكنيسة. على كل مجلس أسقفي التفكير في تشكيل عدة فرق من الخبراء المكلفين بصياغة جادة لمشاريع رعوية تلبي متطلبات كل من هذه الفئات الاجتماعية. كما ينبغي أيضاً أن تكون هذه الفرق مزودة بالوسائل الكافية والأدوات الضرورية حتى تقوم بعملها على خير وجه.
2. لجان "العدالة والسلام" الأسقفية 57. على كل مجلس أسقفي، أو إيبارشية متى دعت الحاجة، أن تكون له لجنة أسقفية للعدالة والسلام، تكون بمثابة العين الساهرة للكنيسة المحلية، في قلب المجتمع، على ما يمت بصلة إلى كل المشاكل الشائكة المتسلطة عليه، خصوصاً تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الإنسان وتنمية الخير العام والتعايش الديموقراطي والمصالحة والتطور. كما يجب أيضاً على هذه اللجان أن تكون وسائل دراسة وتفكير في إطار العمل الرعوي الشامل وفقاً لما تحدده المجالس الأسقفية، وعلى صلة بالمجلس البابوي للعدالة والسلام. بهذا الشكل، ينبغي تصور هذه اللجنة كعمل كنسي، يفكر ككنيسة ومن أجل الكنيسة، هويتها أن تكون لجنة لتنمية العدالة والسلام حسب روح الإنجيل وتعليم الكنيسة حول هذه القيم. إنها أيضاً وسيلة لا غنى عنها لتنفيذ عمل رعوي محدد في مجال المصالحة والعدالة والسلام.
3. الكهنة والرهبان والراهبات ومؤسسات التكوين الكنسي أ) الكهنة 58. إن المهمة الخاصة بالكاهن في الكنيسة، كما يذكرنا بها المجمع الفاتيكاني الثاني، ليست سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل دينية[56]. ومع ذلك، ففي إطار رسالته، يستطيع الكاهن بل يتوجب عليه المساهمة في إقامة نظام مدني أكثر عدلاً. في الواقع، إن كلمة الإنجيل الذي يعلنه باسم المسيح وكنيسته، والنعمة الفاعلة التي لحياة الأسرار التي يحتفل بها، وشهادة محبته، يجب عليها كلها أن تُساهم في تحرير الإنسان من أنانيته الشخصية والاجتماعية، وأن تُنمي، بين البشر، شروط العدالة التي هي علامة محبة المسيح الحاضر بيننا[57]. مساهمة المساعدين الرعويين في تقدم المصالحة والسلام والعدالة في أفريقيا تمر عبر العظات والتعليم المسيحي والرسائل الرعوية، وبصفة خاصة عن طريق عمل رعوي خاص بالعائلة متلائم جيداً مع هذه التحديات.
ب) الرهبان والراهبات 59. كذلك الأمر بالنسبة للرهبان والراهبات الذين هم مدعوون للعمل على إحلال المصالحة والعدالة والسلام في أفريقيا من خلال العيش المتعمق للكاريزما الخاصة بهم، وللمشورات الإنجيلية، في قلب جماعاتهم الرهبانية الخاصة وفي العالم. في الواقع، فقط عن طريق شهادة حياة خدومة، وقبول التعددية والغفران والمصالحة، يمكنهم أن يكونوا في العالم "علامة" و"آداة" للملكوت الآتي. ببساطة نمط حياتهم العفيفة، كعلامة منظورة على هبة ذواتهم كلياً للمسيح وإلى كنيسته، وبروح التجرد والأمانة الإنجيلية في استخدام خيرات هذا العالم، وبالطاعة لرؤسائهم، سيشهدون "للعجائب التي صنعها الله عبر الأشخاص الذين دعاهم، وعبر بشريتهم الهشة"[58]. الالتزام من أجل المصالحة والعدالة والسلام هو من جوهر دعوتهم. في الواقع، على الأشخاص المكرسين أن يكونوا، بشكل ما، ذاكرة حية لقناعة كل مسيحي بأنه "ليس لنا هنا مدينة باقية" على الأرض (عبرانيين 13/14)، أو قل على وجه أفضل، بعدم الانتماء إلى أية قبيلة أو عرق أو شعب، على الأرض، وبالتالي بألا يكونوا إلا مواطنين ساعين إلى التحقيق النهائي لملكوت الله الذي يطلبون مجيئه باستمرار.
ج) مؤسسات التكوين الكنسية 60. يعتبر التحضير المسبق أكثر من ضروري، ليس فقط لمن سيلتزمون مستقبلاً بالعمل الرعوي، بل أيضاً لكل من سيتلقون تكوينهم في المؤسسات الكنسية (الجامعات والمعاهد العليا الكاثوليكية، إلخ). من هنا تنبع الحاجة لأن تتضمن برامج تكوين المساعدين الرعويين والأشخاص المكرسين، كما أيضاً برامج المؤسسات الكنسية الخاصة بالتكوين، مناهج وحلقات دراسة للتكوين في مجال التربية على السلام ومسائل العدالة. سيتعلق الأمر بتزويدهم بوسائل عظيمة الفائدة لتحليل الوقائع الاجتماعية السياسية للوسط الذي هم مدعوون للعمل فيه. مؤسسات التربية الكاثوليكية مدعوة لتقديم خدمة تكوينية ثمينة بتنمية التلاقي الخصيب بين الإنجيل ومختلف المعارف[59]. وبالتالي، يتوجب على تكوين المسيحيين العلمانيين أن يبحث أولاً عن كيفية جعلهم قادرين على مواجهة ذات فعالية لمختلف المسؤوليات اليومية في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك بأن يُنمي فيهم معنى واجب ممارسة خدمة الخير العام. يكمن الجانب الثاني لهذا الإعداد في تكوين الضمير السياسي لتهيئة العلمانيين المسيحيين لممارسة السلطة السياسية[60]. يتوجب عليهم، في الواقع، اكتساب معرفة متميزة في التعليم وفي العمل الرعوي للكنيسة في المجال الاجتماعي، مع اهتمام نشيط بالمسائل الاجتماعية لعصرنا.
ثانياً: التزام كل المؤمنين في خدمة المصالحة والعدالة والسلام 1. هوية ورسالة العلماني في الكنيسة وفي العالم 61. لقد حانت ساعة التزام مكثف ذي تصميم للعلمانيين المسيحيين الأفارقة في حياة الكنيسة والدولة. تنتمي رسالة العلمانيين إلى ذات طبيعة الكنيسة، وهي رسالة ذات آنية، وتحتاجها أفريقيا اليوم بصفة خاصة.ولكن هذه الآنية وهذا الاحتياج لا يبرران فقط بالنظر إلى نمو الاقتناع بمسؤولية وبمشاركة العلمانيين في عمل الكنيسة في العالم، بل بالأكثر بقدر الوعي بالطبيعة الحقيقية لرسالة الكنيسة في العالم. من أجل فهم أفضل لهذه الآنية ولهذه الضرورة لرسالة العلماني في قلب الرسالة الوحيدة للكنيسة، ينبغي علينا الانطلاق من مفهوم الكنيسة بكونها عائلة، "ومكان للمساعدة وللتأهب للخدمة"[61]، كجماعة حياة، فيها تنوع مواهب ورسالة ووظيفة وواجب وخدمة، اللواتي كلاً بطريقتها، تساهم في بنيان العمل الجماعي. إنها تضم أعضاء كثيرين، ولكنها متحدة، إنها جسد المسيح وشعب الله.
62. إنطلاقاً من هذه المرجعية للمسيح ولله الذي يكشفه المسيح لنا كمحبة، يمكن فهم وتبرير كل هذه الأمور. جميع البشر في خدمته، كل حسب طريقته، يساهم في بنيان جسمه. في سبيل هذه الخدمة تصب كل المواهب المعطاة لنا من الله (راجع 1 كورنثوس 7/7؛ أفسس 4/13 و16) ومن يسوع المسيح (راجع أفسس 4/7). من خلال كل هذه المواهب، يساهم كل عضو بطريقته الخاصة في سلطة المسيح ورسالته[62]. دون المساس بهذه الوحدة الداخلية الأساسية، وفي مواجهة مختلف المواقف التاريخية، على الكنيسة التصرف طبقاً لمقتضيات السياق، متذكرة دوماً أن عليها دائماً رسالة وحيدة[63]: كشف سر الله وتقديم الخلاص في يسوع المسيح للعالم، رسالة يتوجب عليها تحقيقها بكل أعضائها. إذا أردنا الحديث عن خدمتها للعالم، ينبغي القول بأن العلماني هو الخبير في هذه الرسالة. هذا هو بالضبط الطابع المدني الذي يحدد خاصية العلماني[64]، فهو يمارس رسالته المسيحية في وسط العالم، في الظروف العادية للحياة العائلية وللمجتمع[65]. إنه مسيحي في العالم. من المؤكد أن الإكليروس والمكرسين هم أيضاً في العالم، ولكن رسالتهم المسيحية لا تتعلق مباشرة ببناء الأمور الأرضية. أما العلمانيون فعلى العكس تماماً، تتعلق رسالتهم الخاصة بالوجود الأرضي. وبالتالي، فدورهم تحقيق ملكوت الله في إدارة وتنظيم الأمور الأرضية حسب القصد الإلهي. بالانقياد لروح الإنجيل، عليهم أن يكونوا في قلب العالم مثل الخميرة في العجين[66]، والملح والنور (راجع متى 5/13 و14).
63. ومن ثمّ، فخدمة العلماني في العالم ليست مجرد خدمة أرضية؛ إنها خدمة خلاصية وهي في نفس الوقت خدمة كنسية. وبما أن الكنيسة هي كنيسة في العالم ومن أجل العالم، لذلك فخدمة العلماني الأرضية هي في نفس الوقت خدمة كنسية. من خلال هاتين الخدمتين يصبح الإنجيل والواقع الخلاصي للمسيحية حاضرين في العالم، كما إن مشاكل العالم تصبح حاضرة في قلب الكنيسة. من خلالهما أيضاً يتوجب التوصل إلى دمج بين المسيحية والثقافة، كما إلى تجسيد المسيحية في عالمنا اليوم. تساهم، إذاً، الخدمة العلمانية للعلماني في الطابع الأسراري للكنيسة التي هي سر الخلاص. انطلاقا من هذا المفهوم للعلماني في قلب الكنيسة، يمكن تصور العلاقة بين الكنيسة والعالم على مستويين: مكانة العلماني في الكنيسة، والعلماني كحامل رسالة البشرى السعيدة في العالم. إنه مدعو ليكون شاهداً في الإطار الزواجي والعائلي، في العمل والمهنة، في العلم والاقتصاد، في الثقافة والسياسة. إنه مدعو، بحق، انطلاقا من قاعدة طابعه العلماني[67] ليقدس العالم و أن يدمج فيه روح الإنجيل[68]، وفي هذا السياق يتموقع الإلتزام الذي يقوم به، باسم الإنجيل، في خدمة المصالحة والعدالة والسلام.
64. لإحلال المصالحة وتدعيم السلام والعدالة، لا يمكن الاستخفاف بإسهام المؤمنين العلمانيين ذاتهم، من حيث كونهم، في الواقع، أهم الأبطال لكسب هذا الرهان. على العلمانيين جميعاً الالتزام بالآتي: محاربة كل أشكال التفرقة، وبنيان المجتمع على مبدأ الإنصاف، وتحرير الانتماء العرقي من الأوهام، والحفاظ على كل ما هو في التقاليد الأفريقية قد ساهم ويساهم في تنمية السلام والعدالة والمصالحة، والإلتزام بحراك المصالحة، واتخاذ سبيل اللاعنف. تقتضي هذه المهمة من العلماني تحضيراً علمياً وعقائدياً وروحياً.
2. أهمية تكوين العلماني 65. يشهد تاريخ الكرازة في أفريقيا بالتزام هام من جانب المرسلين في مجال التربية. كانت المدرسة من بين المؤسسات الهامة – وغالباً الأكثر أهمية – في العمل الرعوي الكرازي، وحالة الكونغو البلجيكي خير شاهد على ذلك. لقد عهدت الحكومة البلجيكية بكل العمل التربوي إلى منظمة الإرساليات الكاثوليكية (Missions Catholiques)الأمر الذي كانت له الكثير من الإيجابيات: يجب الإقرار بأنه بفضل عمل هؤلاء المرسلين تمت انطلاقة العديد من بلاد أفريقيا، حتى وإن توجب الاعتراف بأن فترة ما بعد المستعمرات قد شهدت تضعضعاً تدريجياً للأسس الجيدة التي أرسوها. وحتى في فترات أزمة ما، في العديد من بلاد أفريقيا، لم تستطع عملية التربية أن تعمل جيداً إلا بفضل المؤسسات الكنسية. إن الإقرار المتواضع بالعمل المنجز لا يعفينا من تأمل عميق في السبل والوسائل اللازمة لإعادة انطلاق النظام التربوي في هذه البلاد.
66. على الكنائس المحليّة في أفريقيا أن تتساءل عن الجهود الواجب بذلها لضمان وعي أفضل بمسؤولية العلمانيين في مجال الحياة الاقتصادية والسياسية. على الكنائس أيضاً واجب توفير وسائل التكوين التي يحتاجها العلمانيون حتى يتسنى لالتزاماتهم الزمنية أن تكون مستوحاة من الإنجيل والتعليم الاجتماعي للكنيسة. مما يؤسف له أنه يُلاحظ، في بعض الأماكن، أن الكنيسة قد أهملت طويلاً تكوين وتربية العلمانيين حتى يعرفوا كيفية استخدام حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية في حال التعسف أو إنكار هذه الحقوق. إذا كان صحيحاً أنه يوجد اليوم في بعض البلاد، كنتيجة للدفعة التي أعطاها المجمع الفاتيكاني الثاني، تزايد اهتمام الكنيسة بتكوين العلمانيين، وبخلق مدارس مهنية وجامعات كاثوليكية، يجب الاعتراف بأنه، على العكس، في بعض البلاد، هناك القليل من الاهتمام مُعطى لتكوين نخبة كاثوليكية تتمتع بالكفاءة وبالأمانة للمسيح، وبالالتزام في المجال الاجتماعي. من أجل مساهمة فعالة للكنيسة في نهضة أصيلة نشيطة لأفريقيا، ينبغي تقييم تراث الكنيسة وإبراز قيمته وإدارته وصيانته، ومن ثمّ تقوية فاعلية وكفاءة عملية تكوين نخبة مسيحية قادرة على ممارسة تأثير قوي في التحول الإيجابي لأفريقيا. هذا ما يتوجب عمله بقناعة راسخة لمساهمة جديدة في مسألة تكوين العلمانيين. لا يكفي تكوين الناس، بل يجب أيضاً تخيل فرص عمل، وخلقها إن أمكن. تُريد الكنيسة، في الواقع، "أن تؤمّن تنشئة الضمائر في الميدان السياسي وتُساهم في إنماء الإحساس بمتطلبات العدالة الحقيقية، وفي الوقت عينه، تأمين جهوزية العمل لصالح تلك المتطلبات"[69]. الهدف هو النجاح، ليس فقط في إنتاج كفاءات قادرة على الابتكار، ولكن أيضاً على اختبار أشكال للتعليم تهيئ الأفارقة لكي ينتجوا بأنفسهم ظروفاً أفضل لحياتهم المادية والروحية، ولكي يظلوا، بل وحتى لكي يتقدموا في عالم العلم والتكنولوجيا. مثل هذا التكوين لا يمكنه إغفال بعض العناصر الأساسية في التقدير والقبول المتبادل، وضرورة تجسيد وقائع الإيمان في ثقافات الشعوب الأفريقية، ومدى العلاقة القائمة بين الفقر والعنف، والمطالبة بإدارة جيدة للثروات الأفريقية، والاعتراف بالأقليات، ودراسة المصادر الشخصية والنفسية للحروب.
3. بعض الجوانب التي تستدعي انتباهاً خاصاً أ) التقدير والقبول المتبادل 67. إحدى وسائل العلاج الواجب استخدامها ضد هذا "فيروس" التفرقة المميت، هو بدون شك الالتزام الراسخ والمقتنع بثقافة التقدير والقبول المتبادل. في هذا السياق، وقبل كل شيء، العلماني مدعو ليكون حامل رسالة وشاهداً ملتزماً في البحث عن السبل والوسائل لإقناع كل أفريقي بأن العرق والمنطقة أو الإيديولوجية ليست قيماً مطلقة، فلا يجب، بالتالي أن تكون المرجع الأساسي لسلوك وعمل البعض تجاه البعض الآخر. كل إنسان أفريقي مدعو لدعم كل مبادرة تستهدف تشجيع القبول المتبادل والتعايش السلمي في إطار التقدير المتبادل. تستلزم مثل هذه الرؤية المسيحية الإقلاع عن صور التضامن السلبي، أي تلك التي تنبع مباشرة من تبلور العرقية. هذا يعني أنه يتوجب التضامن مع أبناء العرق الواحد في الخير، ولكن أيضاً عدم التعاون معهم في الشر. التضامن الإيجابي بين أبناء العرق الواحد فحسب، بل أيضاً بين من ينتمون إلى أعراق مختلفة، هو القاعدة التي يؤسس عليها التفاؤل للخروج من شرك الكراهية والتدمير الذاتي للشعوب. إن الشهادات المؤكدة بأنه في لحظات أزمة ما، قام أنُاس عشيرة ما بتخليص أناس من عشيرة معادية، يجب أن تُعطى كأمثلة لرؤية متفائلة للحاضر وللمستقبل. تدعيم هذا التضامن الإيجابي مهمة ستتضمن إعادة إعطاء المنزلة المناسبة للقيم الاجتماعية، خصوصاً العدالة والإنصاف والتقدير المتبادل والتعايش السلمي. إن التجذر في الثقافة الخاصة المعاش إيجابياً يمكن أن يكون عامل إثراء للمصالحة والعدالة والسلام.
ب) المصالحة والغفران 68. يمكن أن يُعني مصطلح "المصالحة" أموراً عديدة. في خبرة جنوب أفريقيا، مثلاً، يمكن اكتشاف دلالة مزدوجة للمصطلح: فمن ناحية، يميل المصطلح إلى أن يعني ببساطة "اتفاق"، "رضاء"، أو أيضاً حل مشكلة أو خلاف ما، ومن الناحية الأخرى، فهو يشير إلى إقصاء العداوة أو نهاية العنف. ولكن المصطلح لا يعني، عندئذ، بالضرورة إحلال السلام في القلوب، فما يهم هو إقامة علاقة عادية وتواصل، وبالتالي تجاوز الخلاف. في هذا الإطار، يصبح للمصالحة طابع عملاني، وتكون أسلوباً لتعلم العيش مع التعددية وفيها، وللتعامل مع الصراعات سلمياً. بالضبط هنا، من أجل ممارسة المصالحة في أفريقيا، يكتسب كامل معناه التأكيد القوي لقداسة البابا بندكتوس السادس عشر: "لا يصرخ الدم المسفوك طالباً الانتقام، بل داعياً لاحترام الحياة وداعياً إلى السلام"[70]. هنا، تجدر ملاحظة الفرق الدقيق بين المصالحة والغفران. يشدد الغفران بالأكثر على العمل الداخلي للشخص للعثور على السلام وتضميد الجراح. في هاتين الحالتين، يتعلق السؤال الأساسي بالذاكرة. في الغفران فقط توجد إمكانية تطهير حقيقي للذاكرة وسلام راسخ: "طلب المغفرة ومنحها هما عنصران أساسيان بالنسبة للسلام. عندئذ فقط تتطهر الذاكرة ويغمر السلامُ القلبَ، ومن ثمّ يصبح شفافاً النظرُ إلى ما تقتضيه الحقيقة لكي تنمو أفكار السلام. لا أستطيع إلا أن أتذكر كلمات يوحنا بولس الثاني المضيئة: «ما من سلام بدون عدل، وما من عدل بدون غفران»"[71]. هذا الأمر يتطلب من الكنيسة عملاً رعوياً نشيطاً، سواء تعلق الأمر بحمل الخطأة على التوبة والاعتراف بأخطائهم أو بجرائمهم، أم تعلق الأمر بمساعدة الضحايا على أن يغفروا بسخاء، حتى في الحالات التي تكون فيها المحاكم المختصة قد أنزلت العقاب العادل على المسئولين عن الجرائم.
69. إذاً، قبول السير على درب المصالحة لا يعني التخلي عن إكرام الضحايا الأبرياء بذاكرة جماعية. ولكن مثل هذه الذاكرة لا تستلزم بالضرورة الرجوع الدائم إلى الضغائن، فهناك، بالفعل، ممارسة ضارة للذاكرة. لذلك تنبغي معرفة التحرر منها، والنسيان، والاقتداء بمعلم الحياة الذي، من علياء صليبه، جاد على صالبيه بغفرانه السخي: "يا أبت اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون" (لوقا 23/34). إذا كان يسوع المسيح هو ملء الحياة، فهو، من الآن فصاعداً، يجمع الأعراق والشعوب إذ يصالحهم بدمه، جاعلاً منهم عائلة واحدة تعيش وصيته التي هي كلمته النهائية: "أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم" (يوحنا 13/34؛ راجع يوحنا 15/12). إن حبه المفاض في قلوبنا لهو قادر على مصالحة بعضنا بعضاً. لذلك، فالمصالحة تعني نزع الحزن الذي تسببت فيه الأحقاد. مهمة شاقة، لن تكون سهلة. بعد المآسي المروعة التي عاشتها أفريقيا، عليها إعادة اكتشاف المعنى الحقيقي للصلاة الربية "وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر للمذنبين إلينا". صحيح أن الغفران ليس سهلاً في أفريقيا التي يسيطر عليها العنف. ومع ذلك، فالله يطلب أن نغفر. إنه لا يشترط النسيان، وإنما المصالحة مع الجلادين. وحدها الضحية تستطيع أن تخطو الخطوة الأولى، ووحدها تستطيع أن تغفر. للغفران علاقة ما بالألوهية، ولربما ممارسة الغفران هي أكثر ما يجعل الإنسان شبيهاً بالله.
70. مع مشكلة المصالحة نلمس دونما عناء مسألة الشفاء التي هي بالغة الأهمية في أفريقيا السوداء، حيث يُعتبر المرض في أفريقيا متعلقاً بنقص انسجام في مجال العلاقات، وعلى هذا المستوى بالضبط يتوجب العمل بالأكثر، متى توفرت إرادة استعادة الصحة، التي تعتمد كثيراً على نوعية العلاقات داخل الجماعة.
ج) المصالحة والشفاء 71. إذا لاحظنا اليوم إقبالاً كبيراً على مختلف الحركات الدينية الجديدة، أو نحو الكنائس الأفريقية المستقلة، فهذا يرجع، إلى حد كبير، إلى أن الناس تشعر بكونها تؤخذ أكثر على محمل الجد، حتى في البعد العلاجي، في هذه الكنائس والحركات الدينية الجديدة. ليس هناك ما هو أكثر وضوحاً في الأناجيل من مهمة يسوع كـ "شافي". لقد أبرأ المرضى، ومن خلال هذا الشفاء، أظهر مجيء ملكوت الله. يُضاف إلى ذلك، أن الرسالة التي يوكلها إلى تلاميذه، حسب القديس لوقا، هي "أرسلهم ليعلنوا ملكوت الله ويبرئوا المرضى" (لوقا 9/2). وقد اعتبرت الكنيسة، طيلة الأزمان، العمل الرعوي المتعلق بالمرضى كأحد اهتماماتها الأساسية. وقد أكد المجمع الفاتيكاني الثاني على البُعد الشامل للخلاص في يسوع المسيح بإعطاء أساس فهم الصلة بين الخلاص الإسكاتولوجي والشفاء الجسدي: "الإنسان محور كل دراساتنا، الإنسان في وحدانيته وكليته، بجسده وروحه وقلبه وضميره وفكره وإرادته"[72]. هذا هو الإطار الذي يحدد أيضاً مقاربة الكنيسة في أفريقيا.
- الشفاء في بعده الاجتماعي- الديني والروحي 72. في أفريقيا، تريد الكنيسة أن تكون عائلة؛ والخلاص الذي تعلنه يشمل الإنسان بكليته، وبالتالي فهو خلاص لا يُحجم بخلاص النفس وحدها. من وجهة النظر الإنسانية والعلائقية، ينبغي القول بأن درجة جودة صحة الكنيسة تعتمد على نوعية العلاقات بين الأشخاص داخلها كعائلة. في جماعة لا يوجد فيها تفاهم ويتقاتل فيه الكل، يصبح الجميع مرضى وباحثين عن إلحاق الضرر بالآخرين. من هنا لياقة إعادة اكتشاف المسيح الشافي، ككلمة محيية تصاحب الحوار الباعث على المصالحة، وتتدخل بالأدوية الفعالة، أي الأسرار على وجه الخصوص التي تخلق الوحدة العائلية. حينما تكون الأسرار على المحك، فالأمر لا يتعلق فقط بسر المصالحة، فالمسيح يتدخل في كل مكان كطبيب، ليس فقط من أجل الصحة الروحية، بل أيضاً الصحة الجسدية. تجعلنا الأسرار، وخصوصاً الإفخارستيا، علامات ووسائل للتحرير من الآلام التي تقض مضجع أعضاء الجماعة، كما تجعل الكنيسة سفيرة للمصالحة (راجع 2 كور 5/20).
73. لا يمكن أن يكون هناك من دور للكنيسة في أفريقيا التي تعاني من الانقسام إلا دور تجميع الإخوة والأخوات الأفارقة، حتى من غير المعمدين، تحت قيادة المسيح، شجرة الحياة وكلمة المصالحة. بذلك، تستطيع أن تثبت للملأ أن يسوع المسيح قد مات "ليجمع شمل أبناء الله المشتتين" (يو 11/52)، وبأنه كلمة الحياة المثلى، الذي يعطي الحياة بوفرة ويصالح الكل بدم صليبه (راجع يو 1/10، كول 1/20). المسيحيون، على مثال المسيح، كلمة الحياة، مدعوون ألا ينطقوا إلا بكلمات محيية، الكلمات التي تتجسد، فتخلق الوحدة وتجعل العالم أكثر إنسانية. في أفريقيا، في الواقع، الحياةُ في الكلمة، بواسطتها يمكن القتل، كما يمكن إعطاء الحياة والتصالح وبناء الوحدة.
- الشفاء في علاقته بالسياسة والاقتصاد والثقافة 74. إذا كان المسيح شافياً، ويرسلنا، بدورنا، لخلاص وشفاء الآخرين (راجع لوقا 9/6؛ متى 16/15-20)، فهذا ليس فقط لنقل خيرات روحية ولخلاص النفس بدون الجسد. إن رسالة المسيح والمسيحي، كما سبق القول، هي خلاص الإنسان كله (راجع لوقا 4/18 وما بعده). على وجه الدقة في أفريقيا اليوم، يجب أن يُخلّص الإنسان، ليس فقط بالتحرير الروحي، وإنما أيضاً باستئصال الحرب، والاستغلال الاقتصادي الداخلي والخارجي، والجوع والمرض والنزعة العشائرية والظلم والديكتاتورية والفساد بكل أنواعه. إن إشكالية الشفاء لا تقتصر على المجال الديني، ولكنها تتضمن وتفترض المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. توجد أنواع مختلفة من الشفاء. في الالتزام من أجل السياسة، كما في أي التزام من أجل تحسين الظروف الحياتية والصحية، وكما في تحسين ثقافة شعوبنا، نقوم بإحداث نوع ما من الشفاء لشعوبنا. في الواقع، لا يمكن إدراك كون يسوع "الشافي" إلا إذا التزم المسيحيون، في مختلف المجالات، بالعمل على تحرير أفريقيا المعاصرة من كل الشرور التي تخنق القارة، خصوصاً شر الحرب.
د) العنف والفقر 75. غالباً ما يكون العنف الصادر عن الأوساط الفقيرة رد فعل على التهميش الاجتماعي المتزايد، وأيضاً على المجتمع في كل مرة يصبح فيها أكثر ظلماً وأكثر تفرقة. إذا كان ذلك كذلك، كيف يمكننا أن نشرح مأساة الأطفال المجندين أو الأطفال المشعوذين؟ لن يُستأصل العنف طالما لن تتغير هيكلية الظروف الاجتماعية التي تتسبب في الافتقار المتصاعد للبعض، والاغتناء الفاحش للبعض الآخر، والنزوح إلى المدن، والبطالة.
76. من الواضح أن الحل الحقيقي للعنف لا يكمن فقط في العدالة الاجتماعية. العنف هو أيضاً عنصر ثقافي ويتوجب العمل على إعادة خلق ثقافة السلام. في الواقع، إن العنف والحرب هما كمنتج ثقافي مولود في الحياة اليومية للمجتمع، مؤسس على مثال قتالي يربينا على العنف. حتى لو كان العنف يصدر عن البشر، إلا إننا غير محكوم علينا بالعنف، كما إنه لن يصبح قدراً محتوماً. إن اللاعنف والسلم هما من المكونات الثقافية، وبالتالي يتوجب بناؤهما، وتعليمهما وتعلمهما. إن لهما علاقة ما بالسياسة والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي، ولكن لهما علاقة أيضاً بالتربية والدين. لن يتحقق السلام ما لم يصبح عملاً لفاعل جماعي هو الجماعة بكاملها: السلام للكل، والسلام بواسطة الكل. يستدعي السلامُ خدمةَ الكلمة: المسيح، أمير السلام، الذي هو سلامنا (راجع أفسس 2/14). ولكن كلمة الله هذه معطاة لنا في الكنيسة وبالكنيسة؛ وفيها ومعها، في الواقع، يُبنى السلام لأنه، قبل شيء، هبة من الله. إذاً، في وسط شعب الله ينبغي إيجاد المعايير الفردية والجماعية للتأكيدات والأعمال المسيحية في مجال السلام. إذا كانت الكنيسة، طبقاً لدعوتها، تريد نفسها علامة ووسيلة للسلام في العالم ومن أجل العالم، فعليها الالتزام في مجال التربية على السلام.
77. ليس حل النزاعات باللاعنف ضرباً من المحال أو شطحة من الخيال؛ وهو لا يعني أيضاً الخضوع والسلبية أو التنازل[73]. يتعلق الأمر، في الواقع، بإقامة خطاب سلام حقيقي، أي الوصول إلى قرار انطلاقا من الحوار ومن بحث رصين ودائم عن توافق جماعي. يفترض مثل هذا الانطلاق قدرة على الغفران، ورؤية عرقية – أخلاقية للغفران بإعتباره اختياراً قلبياً، اختيارا شخصياً، قبل أن يكون واقعاً اجتماعياً. لقد شدد البابا يوحنا بولس الثاني على أنه ما من سلام حقيقي ممكن إلا من خلال الصفح[74]. على المدى القصير، قد يبدو الغفران فشلاً، ولكنه، في الواقع وعلى المدى البعيد، نجاح باهر، إذ بدلاً من التقليل من شأن الإنسان، يرفعه بالحري.
هـ) من أجل وضع نهاية لتجارة الأسلحة وللاستغلال السيئ للموارد الأفريقية 78. بالنسبة للكنيسة-عائلة الله في أفريقيا، المطالبة السلام هي مطالبة بوقف تجارة الأسلحة في مناطق النزاع. الكل يعلم كيف تتزود بالسلاح أطراف النزاع. هنالك ظلم فادح وسرقة: فموارد البلاد الفقيرة تُنهب بانتظام لتغذية تجارة الأسلحة. ينبغي المطالبة بأن تحل القوة الأخلاقية للحق محل القوة المادية للأسلحة. ولكن توفير كل فرص النجاح للحق، يفترض إقامته مسبقاً. على صعيد الواقع، في دول أفريقية عديدة، إذا كان الحق مسجلاً في التشريعات، فمع ذلك، المؤسسات المستقلة القادرة على العمل على احترامه غير موجودة غالباً. ثم إن إقامة الحق تفترض الاعتراف بالحق في الاختلاف، أي بالمَلَكة النظرية والعملية لوضع اعتراض ضميري من النوع المدني، وممارسة العصيان المدني تجاه بعض القوانين أو الإيديولوجيات الشمولية بناء على مبدأ "الله أحق بالطاعة من الناس" (أعمال 5/29)؛ وبالحق في رؤية خاصة للعالم وفي حرية التربية.
و) الاعتراف بالأقليات 79. المطالبة بالسلام هي أيضاً المطالبة بالاعتراف بحق الأقليات. تولد الحروب في أفريقيا، غالباً، من نقص احترام الأقليات، أو من غطرسة بعض الأقليات الممسكة بزمام السلطة معتقدة بأفضليتها على الآخرين. يرتكز الواجب العام، بتفهم واحترام تنوع وغنى الشعوب الأخرى والمجتمعات والثقافات والأديان، على مبدئين أساسيين. الأول هو الكرامة التي لا تمس لكل شخص، بصرف النظر عن أصوله القومية والثقافية والعرقية أو الجنسية، أو معتقداته الدينية. تعني هذه الكرامة أنه حينما يلتئم أشخاص في جماعات، فلهم حق التمتع بهوية جماعية. ومن ثمّ، فللأقليات الحق في الوجود، داخل بلد ما، مع لغتهم وثقافتهم وتقاليدهم الخاصة، وتكون الدولة ملزمة أدبية بإفساح المجال أمام هذه الهويات وهذه التعبيرات الخاصة. أما المبدأ الثاني فهو الوحدة الأساسية للجنس البشري الذي يستقي مصدره من الله خالق كل شيء. تتضمن هذه الوحدة أنه لا يحق لأي مجموعة بعينها الشعور بأفضليتها على مجموعة أخرى. كما إنها تتضمن، أيضاً، أن الاندماج يمكن بناؤه على تضامن فعال منزه عن كل تفرقة. وبالتالي، يقع على كاهل الدولة واجب الاحترام والدفاع عن الاختلافات الموجودة بين المواطنين، والسماح بأن تعدديتهم تخدم الخير العام. تظهر الخبرة، في الواقع، أن السلام والأمان لا يمكن ضمانهما إلا باحترام حقوق كل من تكون الدولة مسئولة عنهم.
80. في هذا الإطار، تصبح حرية الأفراد والجماعات في المجاهرة بديانتهم وممارستها عنصراً أساسياً للتعايش السلمي. إن حرية الضمير وحرية البحث عن الحقيقة والتصرف بمقتضى المعتقدات الدينية الشخصية هي أساسية للكائن البشري حتى أن كل جهد للتضييق عليهما يقود حتماً إلى تصادمات لا يمكن تجنبها. حينما تتفسخ العلاقات بين مجموعات أُمَةِ معينة، يصبح الحوار والمصالحة دروباً إجبارية نحو السلام. وحده الحوار الصادق، والمنفتح على المطالب المشروعة لكل الأطراف، يستطيع بناء صرح لعدالة حقيقية حيث يمكن للجميع العمل للصالح الحقيقي للوطن ولشعوبهم. إن المصالحة، باتفاق مع العدالة والاحترام للطموحات المشروعة لكل قطاعات الجماعة الوطنية، يجب أن تكون القاعدة. ضمانة مشاركة الأقليات في الحياة السياسية هي علامة مجتمع ناضج أدبياً، وهي تشرّف البلاد التي يتمتع فيها المواطنون بحرية المشاركة في الحياة الوطنية في أجواء من العدالة والسلام. ز) المصادر الشخصية والنفسية للحرب 81. دونما توقف عن التصدي للأسباب الموضوعية للصدامات والسخط العام، يبدو أنه لا غنى عن كشف المصادر الشخصية والنفسية للحرب. من بين تلك المصادر، يمكن ذكر المصادمات التقليدية بين القبائل وغياب القضايا الكبرى القادرة على التعبئة العامة، وإسقاط المتاعب الخاصة أو الشعور بالإهانة على جماعة ما، وتجذّر عدم الثقة. هناك أيضاً أنواع من خيبة الأمل التي تتسبب في انفجاريات اجتماعية مثل عدم المساواة في نوال التعليم، ونقص المشاركة – لأسباب قانونية أو واقعية – في السلطة الاقتصادي أو السياسي؛ والحاجة إلى الاعتبار والهوية مثل أن يكون الإنسان معروفاً ومعترفاً به من قِبل المجتمع؛ والعطش إلى الدفء الإنساني والحب والترحاب. للخروج من هذا الموقف، من الضروري إجراء تحوّل روحي. ولكي يكون الإنسان صانع سلام، ينبغي تحقيق هذا السلام داخل الشخص ذاته، فسلام العالم يمر باهتداء صانعه.
الفصل الخامس الوسائل الروحية لتنمية المصالحة والعدالة والسلام في أفريقيا أولاً: فرادة نمط حياة المسيحي في العالم 82. "أنتم ملِحُ الأرض ... أنتم نور العالم" (متى 5/13-14). يدعو الرب تلاميذه ليكونوا ملح الأرض ونور العالم. بهذا يحدد عملياً رسالة تلاميذه في العالم: إنهم ملح الأرض ونور العالم، ولا يستطيعون أن يكونوا كذلك إلا بالقدر الذي يسكنهم الحضور الحقيقي لله الحي الذي يعطي ذاته في جسد ودم من هو كلمة الحياة. ولأن كلمة الله أمينة وفاعلة، ففيها يجد التلميذ ليس المذاق والنور فحسب، بل أيضاً عربون الخلاص.
83. بالحديث عن النور، يستخدم يسوع أيضاً صورة قديمة: صهيون، المدينة الواقعة على الجبل (راجع أشعيا 2/1 وما بعده)، والتي تتدفق الشعوب إليها من كل صوب لانجذابهم إلى النور. من بلد ظلمات الموت والحروب (راجع أشعيا 9/1 وما بعده)، يركضون نحو صهيون للحصول على الحياة والسلام انطلاقاً من تعليمات الرب. حيثما يوجد تلميذ الرب، ينبغي أن يستطيع الآخرون الشعور بالارتياح، الارتياح في عالمهم، بمعنى العثور على النور والخلاص والحكمة والتحرير من الظلمات والتحرير من كل صور التهميش؛ والعثور على الراحة والتعزية لكل قلب مجروح. يشدد الإنجيلي على كلمة "جميع" من هم تلاميذ: "هكذا فليضيء نوركم لجميع الناس، ليروا أعمالكم الصالحة، فيمجدوا أباكم الذي في السماوات" (متى 5/16). هذه هي الدعوة الأساسية لكل مسيحي العالم: أن يُضيء في العالم بنور المسيح الساكن فيه. النور يعمل أعماله، أعماله الصالحة. بمثل هذا الالتزام يعطي المسيحي مذاقاً مسيحياً ونور المسيح للعالم الأفريقي. يتطلب هذا روحانية الالتزام المسيحي في السياسة، وفي مجال العمل والوسط المهني. تتجذر هذه الروحانية في خدمة الكهنوت العام لجميع المؤمنين.
ثانياً: الحياة الليتورجية كينبوع للروحانية المسيحية 84. سبب وجود الكنيسة في العالم هو جعل الوجود الحقيقي للعمل الخلاصي الإلهي منظوراً في الزمان والمكان، وهو العمل على انفتاح العالم على عمل الله، على حياة الله فينا. بالضبط، إنه الوجود الإفخارستي الذي يعلم ويؤون بأن نقطة انطلاق الخلاص هي في القبول المجاني المملوء محبة لكل إنسان ولكل واقع كعطية من الله.هذا ما يذكرنا به جيداً قداسة البابا بندكتوس السادس عشر: "إن أساس العبادة الجديدة هو في أسبقية هبة الله لنا حتى ما إذا استفضنا من هذه الهبة، نصبح خاصته، فتعود الخليقة إلى خالقها"[75]. هذه الهبة هي ما يجعل المسيحي يعيش من الحب الذي يقبله من الله الواحد والثالوث. من هذا الإيمان بالله الواحد الوحيد في ثالوث أقانيمه، يستمد المسيحي القناعة بأن كل البشر إخوة وأخوات، دونما تفرقة بسبب العرق أو الجنس، الطبقة الاجتماعية أو الثقافة؛ وبأن سر هوية كل كائن بشري يكمن في العلاقة. تجد هذه القناعة تأكيدها النهائي وتحديدها في السر الإفخارستي الذي هو، قبل كل شيء، قبول لحياة الله فينا، لهبة كيانه التي يقدمها لنا في يسوع المسيح، المرسل كحضور فائق لحب الآب للإنسانية جمعاء؛ يعبر يسوع ويحقق كلياً، في الإفخارستيا، منطق هبة الذات والقبول والإصغاء. وبالتالي، فكل عمل وكل فكرة مسيحية لا تفهم إلا انطلاقاً من هذا السر الخاص بقبول هبة الله.
85. ليست شهادة المسيحي ترابط (بين الإيمان المُعلن والمُعاش) فحسب، ولكنها أيضاً استباق وتحقيق في الزمان والمكان لهبة الله التي تغير العالم. من ثمّ، فالخدمة التي على الكنيسة ممارستها في العالم هي قبل كل شيء خدمة قبول وإصغاء لاحتياجات الجميع، وخصوصاً لمن لا يُسمع لهم صوت، أو لا وزن سياسي لهم تحسب له قيمة.بتمرس الكنيسة على القبول وعلى الإصغاء لمخلصها الذي يعطي ذاته في الصمت الإفخارستي، أكثر مما في التجرد عن الخيرات والوسائل، تعبر الكنيسة عن فقرها في قدرتها على الإصغاء لكل احتياج إنساني، مهما كان متواضعاً، وعلى حمله صوب الآب ينبوع كل خير. بذلك، تحقق الكنيسة الحركة المزدوجة الأساسية للإفخارستيا: رفع الإنسان وعالمه في المسيح وبه نحو الله، وهبة الله للعالم في المسيح وبه. منذئذ، تُفهم ضرورة الإفخارستيا ووجوبها حالاً في الحياة اليومية للمسيحي. في الواقع، بالإفخارستيا وفيها يحقق المسيحي، كل يوم، كيانه الأكثر عمقاً: أي أن يكون هبة لنساء ورجال عصرنا. في الاحتفال الإفخارستي، يتم التحقيق الأساسي لهذا العطاء بقوة حراك تنتشر من خلال أربع طرق: السجود والشكر وصلاة الاستعطاف وصلاة الطلب.
86. في السجود، يعبر المسيحي بكل صراحة عن خضوعه الكلي لله الذي ينادي بسيادته المطلقة ينبوعاً لكل خير ولكل حياة. ولكن عبادة السجود المسيحية تعطي أيضاً قيمة للإنسان؛ لأن السجود لله يعني تمجيده. والحال أن مجد الله هو الإنسان الحي[76]. يعبر السجود لله، في الواقع، عن أمانة الله للإنسان، وإرادته تخليص الإنسان من العبوديات المهينة التي تنتقص من قيمته. تصبح الإفخارستيا التعبير الأكثر وضوحاً عن هذه الخلاصة: مجد الله – تحرير – رفع الإنسان. تعطي الإفخارستيا للمؤمن القناعة بأنه يعيش داخل عالم من المجانية: كل شيء نعمة، لأن كل شيء هبة من أبي كل خير، ومن الناحية الأخرى، الوعي بأنه مدعو من الآب لأن يعمل على بزوغ القيم الإيجابية الكامنة في كل واقع قد قبله من الله، حتى يشهد ويبرز جودة ومجانية هبات الله. لكي يتحول كل هذا إلى عمل، على المسيحي أن يستخدم الهبات الممنوحة حسب نفس منطق مجانية الله، لإن الإنسان الذي يستخدم الأشياء بموقف تملك أناني لا يشكر الله.تولّد الروحانية الإفخارستية إنسانية متآخية.
87. بإبراز العلاقة الوثيقة التي تجمع بين مجد الله وانشراح كل خليقة، تؤكد الإفخارستيا على الفكرة المسيحية القائلة بأن للخطيئة، دائماً وفي نفس، بعداً رأسياً (إهانة الله) وبعداً أفقياً (فوضى كونية). ولكنها تعلم أيضاً بأن الاستعطاف يتضمن، بتلازم في نفس الوقت مع الإقرار الحق بالسيادة الإلهية، مطلب إصلاح العالم والتاريخ. وبالتالي، فالتوبة المسيحية والالتزام بالاهتداء تتطلبان إقصاء الشر، وتطلبان أيضاً جهداً ثابتاً للتقدم نحو الخير. إن التجديد اليومي لطلب الإفخارستيا لا يستهدف التواء الإرادة الإلهية من خلال إلحاح طلبنا، بل الانفتاح الصبور لعقلنا وقلبنا على فهم متدرج للهبة العظمى التي هي يسوع المسيح، ملء الحياة، وعلى إلتزامنا بالمحبة، وإرداة ما أحبه الله وأراده في المسيح. بهذا المعنى، فالحاجة ليست إلى الصلاة الإفخارستية فحسب، بل أيضاً إلى ممارسة منتظمة لليتورجية الساعات، وإلى لجوء متواتر إلى الأسرار وأشباه الأسرار. وبعيداً عن اعتبار هذه الحاجة محاولة تغريب للإنسان تستهدف التهرب من حل مشاكلنا بإحالتها إلى القدرة الإلهية الفائقة؛ إنها على العكس، تحمّل مسؤولية إلتزام أكثر عمقاً في تحويل أفضل لأمورنا اليومية إلى تقدمات مرضية لله في المسيح.
ثالثاً: نحو روحانية للالتزام في العالم 88. حينما يتحدث آباء الكنيسة عن الخدمة الكهنوتية لكل المؤمنين، فهم يقصدون عبادة الحياة المسيحية التي تكمن في توجيه الكيان كلياً إلى الله وإلى القريب[77]، أي جعل الحياة خدمة سخية لله وللقريب، الأمر الذي يتطلب أحياناً التقدمة العظمى للحياة، أي الاستشهاد. في هذا الصدد، يلخص القديس توما الأكويني التقليد الآبائي مؤكداً على فهم الطابع الأسراري في العماد والتثبيت كمشاركة في كهنوت يسوع المسيح، ككيان موجه إلى العبادة. تعني العبادة "عبادة الحياة المسيحية"[78]. بالنسبة للقديس توما، العبادة التي يدور عنها الحديث هنا ليست طقساً خارجياً، ولا حتى تنظيماً خارجياً، وإنما طقس الحياة المسيحية ذاتها. كل مسيحي مدعو للشهادة قبل كل شيء، ليس بما يقوله ويفعله، بقدر بما يكون عليه وما يحياه، أي علاقته بالمسيح التي تحدد عندئذ ما يقول وما يفعل، وينبغي أن تكون أقواله وأفعاله تعبيراً عن عرفانه بجميل الآب الذي يغمرنا بكل خير في المسيح.
1. روحانية العمل المتقن المتجذر في حب الله والقريب 89. يعبر موقف الشكر هذا عن نفسه باهتمام الإنسان بالخليقة من خلال عمل متقن ومنتظم وشاق. في الواقع، لقد خلق الله العالم "حسناً" لآدم، ليعمل فيه ويكون حارساً له (راجع تكوين 2/15). علينا، إذاً، أن نكون كاملي الاقتناع بأنه من خلال العمل المنتظم والمتقن يستطيع الإنسان تحقيق ذاته (راجع أيوب 5/7)، ويشارك في السلطان الخالق لله، مشاركة تقتضي من المسيحي عناية خاصة في أداء واجبات مهامه الفردية، فليقدس مهامه بإنجازها بحب، حتى في أدق تفاصيلها. بذلك يصبح العمل المهني مصباحاً يُضيء لمن يحيطون بنا ومن يقابلوننا، كما أنه يعطى المذاق وفرح الحياة لمن يتمتعون بثمار عملنا. هكذا، يكون المسيحي مدعواً لتعلّم مهنته جيداً ولممارستها بإتقان، ففي هذا يكمن تقديس العمل. يمكن القول بأن تقديس العمل اليومي يصبح مفصلةً للروحانية المسيحية الأصيلة للمسيحي المنغمس في الأمور الأرضية. مثل هذا التقديس ليس ممكناً إلا حينما نكرس أنفسنا، عن حب، لكل واجباتنا المهنية؛ وحينما نتمم كل شيء جيداً وبحب، كما يحثنا قداسة البابا بندكتوس السادس عشر: "يجب ... أن يكونوا إذاً، أشخاصاً أثار مشاعرهم، قبل الكل، حب المسيح، أشخاصاً استولى المسيح على قلبهم بحبه، موقظاً فيه حب القريب"[79]. هذا هو الطريق الذي سيقودنا إلى إمكانية تأمل العجائب التي يصنعها العمل، بالضبط لكوننا نحب، حتى لو حدث لنا أن نجرع مرارة عدم التفهم والظلم ونكران الجميل، بل وحتى الفشل البشري. ثمار عذبة وبذور خالدة. العنصر الثاني المميز لهذه الروحانية هو الحرية المسيحية. 2. الحرية المسيحية والمعنى العائلي كعلامة مميزة لهذه الروحانية 90. يعيش المسيحي اليوم في نقطة التلاقي بين واقع الخلاص وواقع العالم، بكل ما يتضمنه هذا التلاقي من صدام وتوتر. يجيء الوجود المسيحي، في هذا السياق، كوحدة مصنوعة من الشد بين الاستشهاد والحوار، التوجه نحو العالم والشهادة كعلامة خلاف تبرز من حدث الصليب. مطلوب تمييز الأرواح، فأفضل خدمة تستطيع الكنيسة تقديمها هي تقديم تكوين ضميري نبيل، ملتزم بالإيمان. يحدث الكثير من الالتباسات، في الواقع، كنتيجة للنقص الكبير في المعلومات الكافية عن الإيمان وعن الضمير الصالح. من ثمّ، فالتجدد والتعمق في تعليم مسيحي للبالغين، مستمر وجيد النوعية، هو افتراض مسبق ولا غنى عنه لتجديد رسالة وروحانية المسيحيين. الجانب الثالث يمكن استخراجه من التعليم الكتابي والآبائي عن شراكة أعضاء الجسد الوحيد للمسيح. لا يصبح المرء مسيحياً إلا مع باقي المسيحيين في الشراكة الأكبر مع القديسين. هذا ما يُبرز بكل تأكيد البُعد الشراكي لحريتنا ولالتزامنا. ما من أحد يَخلص بمفرده، فالمسيح يخلصنا معاً ليجعل منا عائلة الله المتحدة في جسده ودمه. ثم تدفعنا الشراكة إلى التواصل الذي هو ممكن على عدة مستويات: في مجموعات العمل، في اللقاء، في التبادل والمشاركة، وفي الجمعيات، وفي العائلة، وفي العمل وفي دوائر الصداقة. المسيحي هو إنسان يعرف كيفية العمل في فريق، وفي التعاون والصداقة النزيهة للآخرين؛ أينما يعمل، فهو يحاول خلق مناخ عائلي، والمكان الأساسي للتعبير عن هذا البُعد الجماعي يظل دائماً الإطار العائلي. الخاتمة من أجل روحانية موجهة نحو الجماعة من أجل خدمة العالم
91. في هذا الصدد، في السياق الأفريقي، تلعب بعض الحركات الروحية والجماعات الكنسية المفعمة بالحياة دوراً كبيراً؛ إنهم يمثلون رجاءً ما بالنسبة للكنيسة. بصرف النظر عن صعوبات تحويل هذه الجماعات الكنسية الحية إلى وسائل حقيقية للمصالحة والعدالة والسلام، ينبغي الاعتراف بأنهم يمثلون إشارات هامة لروح الله، روح الشراكة. إنهم علامات للصورة الواقعية التي ينبغي أن تتخذها رسالة العلمانيين اليوم؛ ففي هذه الجماعات تُعالَج مختلف مشاكل المصالحة والعدالة والسلام، وفيها، شيئاً فشيئاً، ستوجد حلول للمشاكل الحقيقية للجماعات. وهنا يجيء، في الواقع، التزام ومسؤولية العلمانيين بطريقة أكثر كثافة. تستطيع الحركات الروحية، أيضاً، أن تكوّن هذه البؤر التي انطلاقاً منها يُخصب الإنجيلُ واقعَ العالم. المؤمنون العلمانيون مدعوون أيضاً إلى أن يكونوا متنبهين لعطايا الروح الذي يلهم ويبرز، في قلب الكنيسة، مبادرات جديدة ومتجسدة في واقعنا لمواجهة التحديات الكبرى المعاصرة. لا يتوجب على أفريقيا فقط استهلاك الحركات الروحية التي يقيمها نفس الروح في سياقات ثقافية أخرى، بل ينبغي عليها أيضاً أن تكون قادرة على خلق مثيلاتها ونشرها في كل الكنيسة، كعلامة على نضجها الروحي وإصغائها المنتبهة لما يقوله الروح للكنائس.
92. "أنتم ملح الأرض ... أنتم نور العالم" في أفريقيا وفي العالم. إنها دعوة الرب التي تُلزم كل تلاميذه، في تنوع دعواتهم، ليكونوا صناع المصالحة والسلام، ومنشطي العدالة، من الأساقفة حتى العلمانيين، بمساعدة الهيكليات المكملة التي يتكون منها النسيج الكنسي. يتعلق الأمر بالعمل على إقامة ملكوت الله، وعلى المساهمة في إقامة أفريقيا جديدة، حتى أنه بمساعدة النعمة، تنتصر دائماً العدالة والسلام والخير العام للأشخاص وللأمم.
93. يعمل الروح بطريقة تجعل المسيحيين والناس ذوي الإرادة الصالحة، بواسطة أفعالهم اليومية الفردية أو الجماعية، يرفضون الأنانية والخطيئة وكل تعدٍ على السلام والعدالة، فيعملون بنشاط للمصالحة مع الله ومع الأخوة. مريم، هيكل الروح، ملكة السلام، وحامية أفريقيا، تقدم لنا المسيح، صلحنا وبرنا وسلامنا، حتى، في ظل حماية أمومتها، تشع الكنيسة في أفريقيا دائماً أكثر نور شعاع مجد الاب: المسيح.إلى مريم نوكل تحضير وثمار أعمال الجمعية الثانية الخاصة بأفريقيا لسينودس الأساقفة:
94. يا قديسة مريم،
يا أم الحنان والحكمة،
يا أمنا، الممتلئة رحمة وبراً، يا أم المعونة الدائمة، الأسئلة
[1] Jean-Paul II, Exhortation Apostolique Post-Synodale Ecclesia in Africa (14.09.1995): AAS 88 (1996) 5-82. [2] Ibid., 5: AAS 88 (1996) 7. [3] Jean-Paul II, Allocution aux participants au Symposium des évêques d'Afrique et d'Europe (13.11.2004), 5: L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2855 (16.11.2004) 1. [4] ممارسة المحبة علامة مكونة للكنيسة بنفس درجة إعلان الإنجيل الاحتفال بالأسرار (راجع بنديكتوس السادس عشر، إرشاد الله محبة (25/12/2005)، رقم 32). [5] يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسولية "إبقَ معنا، يا ربّ" (7/10/2004)، رقم 2. [6] Synode des évêques, Assemblée Spéciale pour l'Afrique, Message, 2: L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2314 (10.05.1994) 2. [7] Benoît XVI, Discours aux prêtres du Diocèse de Rome (02.03.2006), 9: L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2923 (14.03.2006) 4. [8] من 1978 إلى 2004، ارتفع عدد الكاثوليك (في أفريقيا) من 55 إلى 149 مليوناً. بالنسبة للدعوات الكهنوتية والرهبانية، عن نفس الفترة، يلاحظ نمواً ملحوظاً: راجعSecretaria Status Rationarium Generale EcclesiÆ, Annuaire statistique de l'Église 2004, Citè du Vatican, p. 18. [9] Jean-Paul II, Exhortation Apostolique Post-Synodale Ecclesia in Africa (14.09.1995) 114: AAS 88 (1996) 68. [10] Cf. Ibid., 110: AAS 88 (1996) 65. [11] Synode des évêques, Assemblée Spéciale pour l'Afrique, Proposition n. 56 [12] Jean-Paul II, Homélie d'ouverture de l'Assemblée synodale (10.04.1994), 7: L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2310 (12.04.1994) 2. [13] Jean-Paul II, Exhortation Apostolique Post-Synodale Ecclesia in Africa (14.09.1995) 113: AAS 88 (1996) 67. [14] Ibid., 118, AAS 88 (1996), 70 [15] راجع بندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة ألله محبة (25/12/2005)، رقم 28أ. [16] Symposium des Conférences épiscopales d'Afrique et de Madagascar (S.C.E.A.M.), "église-Famille de Dieu: lieu et sacrement de pardon, de réconciliation et de paix en Afrique.‘Christ est notre paix’(Ep 2, 14)": Documentation Catholique 2262 (20.01.2002) 64-84. [17] راجع سينودس الأساقفة، الجمعية الخاصة من أجل أفريقيا، خطة للدراسة، 118؛ Jean-Paul II, Exhortation Apostolique Post-Synodale Ecclesia in Africa (14.09.1995), 51;AAS 88 (1996) 32; 69. [18] Benoît XVI, Discours à l'issue de la rencontre avec le clergé de Rome (13.05.2005): L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2881 (17.05.2005) 5. [19] راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي (8/12/1994)، 8، في أعمال الكرسي الرسولي، 87 (1995) 363. [20] Jean-Paul II, Exhortation Apostolique Post-Synodale Ecclesia in Africa (14.09.1995), 115; AAS 88 (1996) 69. [21] Synode des évêques, Assemblée Spéciale pour l'Afrique, Lineamenta, 69. [22] Cf. Synode des évêques, Assemblée Spéciale pour l'Afrique, Lineamenta, 97. [23] Jean-Paul II, Discours au Corps diplomatique (13.01.1990): L'osservatore Romano (14.01.1990) p. 5; ou encore sur la nécessité de promouvoir la liberté religieuse et le principe de réciprocité cf. Benoît XVI, Discours au Corps diplomatique (09.01.2006): L'osservatore Romano, E.H.L.F., 2914 (10.01.2006) 5: "aucun gouvernement ne peut se dispenser du devoir de garantir à ses citoyens des conditions de liberté appropriées". [24] B. Elisabeth de la Trinité, "Traités spirituels. 1. Le ciel dans la foi": Œuvres complètes, édition critique de Conrad de Meester, Paris 1996, p. 111. [25] Jean-Paul II, Discours prononcé à la deuxième session de célébration de l'Assemblée Spéciale pour l'Afrique du Synode des Évêques, Johannesburg [Afrique du Sud] (17.09.1995), 3: L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2386 (03.10.1995) 7. [26] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي كلمة الله، رقم 2. [27] Benoît XVI, Homélie de la Messe chrismale (13.04.2006): L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2928 (18.04.2006) 4. [28] يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسولية "إبقَ معنا، يا ربّ" (7/10/2004)، رقم 3. [29] نفس المرجع. [30] نفس المرجع، رقم 16. [31] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم، رقم 1. [32] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعي في نشاط الكنيسة الإرسالي إلى الأمم، رقم 8. [33] نفس المصدر. [34] بندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/10/2005)، رقم 25 ب. [35] Cf. Conseil Pontifical Iustitia et Pax, Compendium de la Doctrine sociale de l'Église, Cité du Vatican 2004, n. 66. [36] Symposium des Conférences épiscoplaes d'Afrique et de Madagascar (S.C.E.A.M.), Actes de la VIIème Assemblée plénière (Kinshasa, 1984): La voix du S.C.E.A.M., Accra 1987, p. 161. [37] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 2419. [38] راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السنة المائة، (1/5/1991)، رقم 54. [39] نفس المرجع، رقم 11. [40] Cf. B. Jean XXIII, Encyclique Mater et magistra (15.05.1961): AAS 53 (1961) 453, 459. [41] يجدر هنا التذكير بمبدأ "الشراكة في الخيرات" والاستعدادية للمشاركة الذي عاشته الجماعات المسيحية الأولى:Didachè I, 5: SC 248, 144: "Donne à tout homme qui t'implore"; cf. Épître de Barnabé, 19, 8: SC 172, 206; Heremas, Le Pasteur, Précepte II, 4-5: SC 53, 146-148; Tertullien, Apologeticum XXXIX, 11: rec. P. Frassinetti, Augustæ Taurinorum 1965, p. 92. [42] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي في الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، رقم 69. [43] Cf. Jean-Paul II, Encyclique Laborem exercens (14.12.1981), 14: AAS 83 (1981) 616. [44] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي في الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، رقم 69. [45] راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسولية إطلالة الألف الثالث (10/11/1994)، رقم 49-50؛ الرسالة العامة الاهتمام بالشأن الاجتماعي (30/12/1987)، رقم 42. [46] يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السنة المائة (1/5/1991)، رقم 35. [47] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي في الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، رقم 71. [48] Cf. Conseil Pontifical Iustitia et Pax, Compendium de la Doctrine sociale de l'Église, Cité du Vatican 2004, n. 164. [49] راجعبندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/12/2005)، رقم 28أ. [50] نفس المرجع، رقم 28ب. [51] Conseil Pontifical Iustitia et Pax, Compendium de la Doctrine sociale de l'Église, Cité du Vatican 2004, n. 189. [52] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي في الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، رقم 1. [53] راجعبندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/12/2005)، رقم 28ب. [54] Jean-Paul II, Exhortation Apostolique Post-Synodale Ecclesia in Africa (14.09.1995), 68; AAS 88 (1996) 42-43. [55] راجعبندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/12/2005)، رقم 35. [56] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي حول الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، رقم 42. [57] راجع المصدر نفسه، رقم 58؛ راجعبندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/12/2005)، رقم 29. [58] يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي في الحياة المكرسة (25/3/1996)، رقم 20؛ راجع أيضاً رقم 26. [59] Cf. Conseil Pontifical Iustitia et Pax, Compendium de la Doctrine sociale de l'Église, Cité du Vatican 2004, n. 532. [60] Cf. Ibid., n. 531. [61] بندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/12/2005)، رقم 32. [62] راجع وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: بالنسبة للأسقف: دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم، رقم 21؛ بالنسبة للكاهن: مرسوم في رسالة الكهنة وحياتهم درجة الكهنوت، رقم 21؛ بالنسبة للعلماني: مرسوم في رسالة العلمانيين نشاط الكنيسة الرسولي، رقم 29، وكذلك دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم، رقم 30 وما بعده. [63] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم، رقم 41، ومرسوم في رسالة العلمانيين نشاط الكنيسة الرسولي، رقم 2. [64] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم، رقم 31؛ مرسوم في رسالة العلمانيين النشاط الرسولي، رقم 2 و4 و7؛ دستور رعوي في الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، رقم 43؛ بولس السادس، دعوة رسولية من أجل إعلان الإنجيل (8/12/1975)، رقم 70-72.. [65] راجع بندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/12/2005)، رقم 29. [66] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم، رقم 31، 36؛ مرسوم في رسالة العلمانيين نشاط الكنيسة الرسولي، رقم 2 و5 و7. [67] راجع يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي ملحق بمجمع الأساقفة العلمانيون المؤمنون بالمسيح (30/12/1988)، رقم 15-17. [68] راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، مرسوم في رسالة العلمانيين نشاط الكنيسة الرسولي، رقم 4؛ يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي ملحق بمجمع الأساقفة العلمانيون المؤمنون بالمسيح (30/12/1988)، رقم 44. [69] بندكتوس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25/12/2005)، رقم 28أ. [70] Benoît XVI, Discours au Corps diplomatique (09.01.2006): L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2914 (10.01.2006) 5. [71] Idem. [72] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي حول الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، رقم 3. [73] راجع بولس السادس، رسالة بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي (8/12/1968)، في أعمال الكرسي الرسولي، 60 (1968)، 771؛ رسالة بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي (8/12/1974)، في أعمال الكرسي الرسولي، 67 (1975)، 65؛ رسالة بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي (8/12/1977)، في أعمال الكرسي الرسولي، 70 (1978)، 49. [74] راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للسلام "لا سلام بدون عدل، ولا عدل بدون غفران" (8/12/2001)، في أعمال الكرسي الرسولي، 94 (2002)، 132-140. [75] Benoît XVI, Homélie de la Messe chrismale (13.04.2006): L'Osservatore Romano, E.H.L.F., 2928 (18.04.2006) 4. [76] Cf. Irénée de Lyon, Adversus hæreses, IV, 20, 7: SC 100/2, p. 648, 180-181. [77] Cf. S. Augustin, De civitate Dei, 10, 5, 6: PL 41, 283; S. Leon le Grand, De natali ipsius; sermo 4, 1: SC 200, 266. [78] S. Thomas d'Aquin, Summa Theologica III, q. 63, a. 1-6.
هذا النص للخطوط العريضة http://www.vatican.va © Copyright 2006 – Secrétairerie Générale du Synode des Évêques Ce texte peut être reproduit par les Conférences épiscopales, ou avec leur autorisation,
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||